مَن يَملُكُ التراث الثقافي السوري؟

صوّر الرئيس بشار الأسد بمهارة تراث سوريا المتعدد الثقافات باعتباره انعكاساً لنفسه، واستولى على كل ما هو إيجابي حول الهوية الثقافية لسوريا كما لو كان مسؤولاً بطريقة ما عن إنشائها – طريقة خبيثة للغاية لإبعاد الخصوم عن الصورة بشكل تدريجي.

قلعة تدمر: تفجير “داعش” لها محا آثار ما اقترفته أيادي جنود النظام من أضرار.

بقلم ديانا دارك*

يُعتَبَرُ التلاعب السياسي بالتراث الثقافي أداةً قوية في ترسانة القوة الناعمة. الرئيس السوري بشار الأسد يتفهّم ويُدرك ذلك جيداً، وكذلك الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان.

في سوريا، جاءت أحدث مبادرة على هذه الجبهة ردّاً على التحويل الأخير لآيا صوفيا في اسطنبول من متحفٍ إلى مسجد. لقد تمّ الإعلان عن بناءِ نسخةٍ مُصَغَّرة من آيا صوفيا، بتمويل من روسيا، في بلدة السقيلبية المسيحية الأرثوذكسية الصغيرة في محافظة حماه. يبدو العنوان جيداً، حيث يُروِّج “للحوار السلمي” بين الأديان، ويهدف إلى إبراز بشار وبوتين كمُعتَدلَين مُتعدّدَي الثقافات – على عكس أردوغان. وكما أوضح نابل العبد الله، قائد ميليشيا قوات الدفاع الوطني السورية مُنشىء هذه الفكرة، “لقد تم إطلاقها لإظهار الوجه الحقيقي لسوريا، حيث تتعايش حضارات وثقافات مختلفة”.

ومع ذلك، يكشف التدقيق الدقيق أن آيا صوفيا السورية هذه ستكون صغيرة جداً، بطول 4 أمتار وعرض 4 أمتار فقط، بحيث لا تكاد تتسع لعشرات المصلين. لكن حجمها الصغير يُناقض رسالة قوية تتجاوز رمزية اسمها. ستُقام على أرضٍ تبرّع بها العبد الله، على بُعدِ كيلومترات قليلة من نقطة المراقبة التركية في “مورِك” (Morek)، وهي أيضاً وسيلة لروسيا للتحالف العلني مع المجتمع المسيحي الأرثوذكسي المحلي.

هناك نقصٌ في أموال إعادة الإعمار في سوريا. إن 45 في المئة من مساكنها فُقِدَت في السنوات التسع الماضية من الحرب. ومع ذلك، في حين أن معظم هذه المساكن، التي تعود إلى حد كبير إلى غالبية السكان السنّة، لا تزال في حالة خراب، يبدو أنه يُمكن العثور على المال دائماً عندما يُعتَبَر الأمر مُهماً بدرجة كافية.

سرد الأسد

كل هذا يُغذّي سرد الأسد، الذي تم الإلتزام به بلا هوادة منذ اندلاع الحرب السورية في آذار (مارس) 2011، والذي يقول بأنه وحده، بشار، يمكن أن يكون المدافع الحقيقي عن البلاد وتراثها الثقافي وإرثها الحضاري. “شو البديل” (ما هو البديل؟) يُردّد شعار الموالين. “الأسد أو الإرهابيون”. منذ العام 2013 فصاعداً، أدّى التدمير المنهجي من قبل “داعش” للمواقع التاريخية البارزة في جميع أنحاء سوريا والعراق، مثل تدمر، إلى جعل سرد الأسد أكثر منطقياً – “الأسد أو المتطرفون”.

مع اقتراب موعد الإنتخابات الرئاسية في حزيران (يونيو) المقبل، يستدعي هذا السرد تمحيصاً دقيقاً. منذ بداية الحرب، يحتفظ العديد من المُنظّمات بسجلات صور وفيديو مُفصَّلة للأضرار التي لحقت بالآثار الثقافية. بفضل جهودها، تم الآن تجميع قاعدة بيانات ضخمة تُثبت مدى الدمار، ومدى قابلية إصلاحه، وكيف حدث الضرر. تُظهر البيانات أن الضرر الأكبر الذي لحق بالآثار التاريخية في سوريا يُمكن أن يقع على أبواب النظام، تماماً كما تؤكد الأرقام أن 90 في المئة من المدنيين و 95 في المئة من العاملين في المجال الطبي قد قُتلوا على أيدي قوات النظام وحلفائه. بالنظر إلى التفاوت الهائل في الأسلحة بين النظام والمُتمردّين، فإن هذا ليس مفاجئاً. إن تسطيح الأمكنة لا يمكن أن يحصل إلّا بواسطة القصف الجوي الذي كانت تقوم به الطائرات والمروحيات الحكومية السورية والروسية. لم يكن لدى “الجيش السوري الحر” (أو المتمردين عامة) وكل تحركاته اللاحقة قوة جوية.

الحفاظ على التراث الثقافي السوري

غالبية المُنظّمات المَعنية بالتراث الثقافي السوري هي للضرورة مقرّها خارج البلاد، لكن العديد منها له أيضاً صلات بالسوريين على الأرض، مثل “مشروع أرشيف التراث السوري في برلين”، و”جمعية حماية الآثار السورية في ستراسبورغ”،و”التراث من أجل السلام”، و”التراث الأثري السوري في خطر”، و”اليوم التالي – مبادرة حماية التراث”؛ والمدارس الأميركية للبحوث الشرقية في المواقع الإلكترونية الأميركية غير السياسية مثل “آثار سوريا” (Monuments of Syria)، التي جمعها السفير الأوسترالي السابق في سوريا، روس بيرنز، هي أيضاً لها قيمة كبيرة، حيث تقوم بتزويد أقسام اليونسكو ذات الصلة بالبيانات الحيوية لإعادة الإعمار في المستقبل.

عندما يتعلق الأمر بإعادة الإعمار الفعلي على الأرض، مرة أخرى، نادراً ما يكون نظام الأسد أو حلفاؤه الروس أو الإيرانيون هم مَن يتولّون القيادة. صحيح أن حكومة رمضان قديروف الشيشانية، التي لا يُعرف عنها عموماً بأنها تقوم بالعمل الخيري أو التقوى، تُموّل إعادة إعمار الجامع الأموي في حلب. ولكن يتم إعادة بناء أسواق حلب الشهيرة من قبل شبكة الآغا خان للتنمية، وهي مؤسسة غير سياسية تهتم حقاً بالتراث الثقافي. حتى قبل الحرب أنفقت الملايين على ترميم حلب القديمة. أما بالنسبة إلى ترميم الفنادق في حلب، مثل قصر المنصورية وبيت الصالحية، فيتم تمويلها من قبل مغتربين سوريين أثرياء. أما الأفراد الذين لديهم أموال كافية فقد قاموا بترميم منازلهم التي دمّرتها الحرب بدون دعم حكومي.

جهود ميدانية

لدى معظم السوريين، صغاراً وكباراً، فخرٌ كبير ووعيٌ عميق بالهوية الثقافية لبلدهم، كما يتّضح من شبكات المتطوعين العاملين على الأرض لحمايتها بأي طريقة مُمكنة. في إدلب، المحافظة الشمالية الغربية الخارجة عن سيطرة النظام، أُعيد افتتاح متحف المدينة في العام 2018 بعد خمس سنوات من الإغلاق، مع استمرار العمل المُمَوَّل من الخارج لتوثيق وتسجيل الألواح المسمارية التي لا تُقدَّر بثمن من موقع إيبلا الذي يعود إلى العصر البرونزي. وقد اعترفت اليونسكو دائماً بالمساهمة القيّمة للعديد من هذه المجموعات التطوعية. بالإضافة إلى توفير الوثائق الحيوية، تعمل هذه التنظيمات أيضاً معاً على حماية المواقع الأثرية من الحفريات غير القانونية والمساعدة على تعقّب الآثار المنهوبة.

داخل سوريا، المديرية العامة للآثار والمتاحف تُديرها الدولة، مع كل ما يعنيه ذلك من محدودية الأموال. بينما غادر بعض موظفيها البلاد كلاجئين، فقد بقي أفراد آخرون مؤهلون جيداً ومُلتَزمون يبذلون قصارى جهدهم في الظروف الصعبة. حتى أن البعض فقد حياته بسبب شغفه والتزامه، مثل عالم الآثار البارز في تدمر خالد الأسعد.

يعمل آخرون، لا سيما في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون مثل إدلب، سراً من أجل سلامتهم، ويكاد يكونون غير معروفين تماماً، ومع ذلك فقد وثّقوا بدقّة الأضرار التي لحقت بـ732 موقعاً في المحافظة. تُمثّل هذه معاً أكثر من ثلث الآثار السورية، بما فيها المدن الميتة و2000 كنيسة مُبكِرَة، والتي تم تصنيفها من اليونيسكو كموقعٍ للتراث العالمي في العام 2011. يواصل هؤلاء الأفراد الملتزمون العمل حتى اليوم وسط القتال المستمر. إذا سقط النظام بعد انتخابات حرة ونزيهة في حزيران (يونيو) المقبل، سيعود الكثير من الموجودين في المنفى إلى بلدهم الحبيب بسرعة الصاروخ، حاملين معهم الخبرة والتمويل الأجنبي، إلى جانب أعلى معايير الترميم والبناء.

“الحقيقة” – أو نسخة الأسد منها

نظرةٌ سريعة على قسم الثقافة والفنون في موقع وكالة الأنباء العربية السورية (سانا) الذي تديره الدولة يظهر كيف يَنشرُ النظام بشكلٍ مُتكرّر عناصر ومعلومات قصيرة تُشير بشكل جماعي إلى أنه يحمي هذه المواقع بطريقة ما. ويعرض صوراً لرحلات مُنظّمة إلى تدمر مع مؤيدين مُخلصين “حفاظاً على التراث السوري”. يتحدّث الموقع أيضاً عن توثيق “الواقع” و”الحقيقة”. منذ بداية الحرب في العام 2011، تم تشغيل عمود جانبي خاص تحت عنوان “واقع الأحداث” – نسخة الأسد عن الحقيقة.

في 5 أيار (مايو) 2015، أقام بوتين “حفل النصر” في تدمر، حيث استقدم جواً أوركسترا خاصة من موسكو، بعد أن طردت روسيا مقاتلي “داعش”. تم نقل الموسيقيين بسرعة عبر الصحراء، حتى يتمكن الرئيس الروسي من اغتنام الفرصة لإطلاق نفسه عبر رابط الفيديو من المسرح القديم لمدينة تدمر إلى المسرح العالمي، باعتباره “منقذ سوريا” و”المدافع ضد الإرهاب”. وما زال يدّعي حمل تلك العباءة .

لكن في حين صدم استيلاء “داعش” على تدمر في العام 2013 العالم، لم يتحدّث أحدٌ عن الأضرار التي سببتها القوات الحكومية في وقت سابق في الحرب. قبل وقت طويل من انتهاء “داعش” من التدمير، ألحقت القوات الحكومية أضراراً بالغة بالموقع، حيث قامت بتركيب قاذفات صواريخ متعددة في معسكر دقلديانوس، وقادت دبابات ثقيلة ومركبات عسكرية عبر الموقع الأثري، وقصفت معبد “بل”، ما أدّى إلى انهيار أعمدةٍ عدة. إن تفجير داعش للمعالم الرئيسة في الموقع خلال صيف 2015 أدّى بدوره إلى محو كل من الأدلة والذكرى للإنتهاكات السابقة التي ارتكبها جنود النظام.

في قلعة الحصن، أفضل قلعة صليبية مُحافَظٌ عليها في العالم، ألقى سلاح الجو السوري قنابل داخلها، ما أدّى إلى تفجير النحت المُعقّد للّوجيا القوطية أمام قاعة الطعام، ما تسبّب في أول ضرر على الإطلاق لنسيج القلعة منذ وجودها قبل 800 عام. ومع ذلك، وضع النظام اللوم مباشرة على “الإرهابيين”. في وقت لاحق، نشر صوراً لأعمال الإصلاح الخاصة التي يقوم بها، ودائماً ما يُقدّم نفسه على أنه هو الذي يقوم بإصلاح المشاكل، وليس السبب في حصولها.

في حلب، رواية النظام مُضَلِّلة بالقدر عينه. لقد تم تصوير الأضرار التي لحقت بالجامع الأموي في حلب على أنها من عمل “الإرهابيين” على الرغم من تسجيل لقطات فيديو سابقة لجنودٍ من “الجيش السوري الحر” يساعدون المتطوّعين في تفكيك ونقل الأشياء الثمينة مثل المنبر الخشبي الذي يعود إلى القرن الثالث عشر إلى بر الأمان. قام طلاب علم الآثار المحليون ببناء جدران واقية من انفجار القنابل أمام قبر زكريا (والد يوحنا المعمدان) وغطوا المزولة (الساعة) الشمسية التي تعود إلى العصور الوسطى في الفناء داخل كتلٍ واقية من النسيم والهواء، ثم أغلقوا الغطاء.

بعدما استعاد النظام السيطرة على حلب، أقام الأسد حفل “النصر” الخاص به في اليوم الوطني – 17 نيسان (إبريل) 2018 – في المدرج الحديث للقلعة، مُحتفلاً به في شكل احتفالٍ باستقلال البلاد، بالغناء والرقص الوطني والإستعراض. وتمّ بثّه على الهواء مباشرة على التلفزيون الوطني بينما كانت الحشود الموالية تُلوّح بأعلامها السورية أمام الكاميرا.

لقد صوّر الأسد بمهارة تراث سوريا المتعدد الثقافات باعتباره انعكاساً لنفسه، واستولى على كل ما هو إيجابي حول الهوية الثقافية لسوريا كما لو كان مسؤولاً بطريقة ما عن إنشائها – طريقة خبيثة للغاية لإبعاد الخصوم عن الصورة بشكل تدريجي.

“إعادة البناء بشكل أفضل”

أطلق الوباء العالمي المُستمر طرقاً جديدة للتفكير، وأظهر كيف يُمكن للناس أن يفعلوا المزيد بتكلفة أقل من خلال الإستخدام الذكي للتكنولوجيا الرقمية. يُمكن أن تنبع الفوائد الإقتصادية والإجتماعية من مشاريع التراث الثقافي المُدارة بشكل جيد، ما يُوفّر فُرَص العمل للشباب والكبار على سواء. على سبيل المثال، تعمل ورش عمل “الثقافة في أزمة” التابعة لمتحف فيكتوريا وألبيرت”  (V & A’s Culture in Crisis) البريطاني على استكشاف فرص بديلة للتعاون والتعامل المستقبلي بين خبراء التراث في الخارج والمجتمعات المحلية على أرض الواقع، بهدف “إعادة البناء بشكل أفضل”. يُمكن إشراك السكان المحليين في التدريب عبر الإنترنت والتعليم التراثي بشكل افتراضي.

لن يتم إطلاق مثل هذه المبادرات أو دعمها من قبل الحكومة السورية الحالية، حيث أن التنسيق بين الوزارات والسلطات الأخرى ضعيفٌ أو غائبٌ إلى حد كبير، وحيث يُنظر إلى مبادرات المجتمع المدني على أنها تُشكّل تحدّياً لسلطة الدولة فتُغلَق أو تتم مواجهتها بالإعتقال والسجن.

ومع ذلك، فإن الهوية الثقافية الفريدة لسوريا لا تزال قائمة. كانت موجودة دائماً، قبل عائلة الأسد – وما زالت موجودة، على الرغم من عائلة الأسد.

  • ديانا دارك هي باحثة غير مقيمة في برنامج سوريا التابع لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن وخبيرة ثقافية مستقلة في شؤون الشرق الأوسط ومتخصصة في الشؤون السورية. وهي مؤلفة كتاب “بيتي في دمشق: نظرة من الداخل للأزمة السورية (2016)”، و”تاجر سوريا (2018)”، و”السرقة من المسلمين: كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا (2020)”. الآراء الواردة في هذه المقالة خاصة بها.
  • كتبت الكاتبة هذه المقالة بالإنكليزية وعرّبها قسم الدراسات والأبحاث في أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى