إيران… والاستثناءُ الباكستاني

محمّد قوّاص*

أفرَطَ ضيوفُ الفضائيات من طهران، الخميس الماضي، في التخفيفِ من قيامِ باكستان بقَصفِ أهدافٍ داخل الأراضي الإيرانية فجر ذلك اليوم. الهجوم الخارجي هو الأوّل الذي تتعرّضُ له الأراضي الإيرانية منذ الحرب مع العراق (1980-1988). راحوا يتحدّثون عن “حادثٍ” عرضي لا يُمكِنُ أن يُؤثّرَ على علاقات البلدين “الأخوية” التي وصفوها بالممتازة والحميمية والاستراتيجية. وكادَ إجماعُ المُعلّقين يفضحُ كلمةَ سرٍّ من طهران أوعزت لمنابرها بـ”بلع الموسى” الباكستاني الغليظ.

صباحُ ذلك اليوم قصفت باكستان “ملاذاتٍ إرهابية” في محافظة بلوشستان الإيرانية. ذكر الجيش الباكستاني أنه نفّذَ ضرباته بدقّة باستخدامِ طائراتٍ مُسَيَّرة وصواريخ وذخائر وأسلحة أخرى، استهدفت جماعتين “إرهابيتين”، هما “جيش تحرير بلوشستان” و “جبهة تحرير بلوشستان”.

تتحدّثُ المعلومات من مصادر قريبة من صناعة القرار في إيران أنَّ طهران صُعِقَت بسرعةِ ونوعية الردّ الذي قامت به إسلام آباد. كان الحرس الثوري قد شنّ هجومًا قبل 48 ساعة (الثلاثاء) على مواقع لتنظيم “جيش العدل” البلوشي المعارض داخل الأراضي الباكستانية. حتى أنَّ جدلًا دار في طهران بشأن عجز الأجهزة المَعنيّة في إيران عن توقّعِ ردِّ الفعل الباكستاني. فيما اندلع جدلٌ آخر بشأن الحكمة من التحرّش بدولةٍ حدودية نووية بحجم باكستان.

يتحدّثُ الخبراء في الشؤون الإيرانية، لا سيما الدارسون عن كثب لسلوكِ طهران وعقائدها في السياسة الخارجية، عمّا هو أكبر من “صفعة” تلقّتها طهران قد يكون لها ما بعدها في كل السياق الذي اعتادت إيران انتهاج قواعده. يُذكّر هؤلاء أنَّ دولةً كبرى مثل الولايات المتحدة سحبت قواتها من لبنان في الثمانينيات الفائتة إثرَ ضرباتٍ تلقّتها من جماعاتٍ قريبة من إيران فجّرت مقر المارينز والسفارة الأميركية هناك. يُذكًرون أيضًا أنَّ دولًا أوروبية عقدت صفقاتٍ مع طهران خلال الأربعة عقود الأخيرة إثر تعرّض تلك الدول لهجمات إرهابية لم تَبذُل إيران جهدًا لإخفاءِ ضلوعها فيها. ووفق ذلك فإنَّ ردَّ باكستان يُعاكِسُ المألوف وما خبرته خلال العقود الأربعة الأخيرة.

وإذا ما ارتأت الولايات المتحدة “التعايش” مع الأمرِ الواقع الإيراني وصولًا إلى مراعاة مصالح الجمهورية الإسلامية للتوصّلِ إلى اتفاق فيينا لعام 2015 في عهد باراك أوباما ثم لإعادة إنعاشه في عهد جو بايدن، فإنَّ طهران صالت وجالت داخل بلدان المنطقة، وتفاخرت بالسيطرة على 4 عواصم منها، من دون أن تَشعُرَ بأيِّ حَرَجٍ بالقدر الذي شعرت به بعد أن اخترقت صواريخ باكستان أجواء إيران وانفجرت في أراضيها. ففي الحدثِ تحوّلٌ يُلامِسُ ما كان وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون لمّح إليه في تهديد إيران في 24 كانون الأول (ديسمبر) الماضي بالقول: “الأمور تغيّرت”.

قبل ساعات من الحدث كان الحرس الثوري قد قصف أربيل في العراق وإدلب في سوريا مُدَّعيًا مُطاردته لمصالح الموساد الإسرائيلي في البلدين. سكتت دمشق. لكن بغداد وصفت الأمر بـ”العدوان” الذي تسبب بمقتل مواطنين عراقيين واعتبرته انتهاكًا لسيادة البلاد.

وفيما جهد ضيوف الفضائيات ذاتهم في إنتاج محاضر اتهام تربط جماعات “داعش” في هجوم كرمان وجماعات إسلامية في إدلب ورجل أعمال من إقليم كردستان العراق بجهاز الاستخبارات الإسرائيلي، فإنَّ وزير الخارجية الإيران حسين أمير عبد اللهيان ارتجل في دافوس في سويسرا تصريحًا قال فيه إن بلاده لم تنتهك سيادة العراق. وفي عِلمِ السيادة أيضًا، وللمفارقة، قالت الخارجية الباكستانية إن إسلام آباد “تحترم بشكلٍ كامل سيادة وسلامة أراضي الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، مُشَدِّدةً على أنَّ “أمنَ باكستان ومصلحتها الوطنية لا يمكن المساس بهما”.

كان واضحًا منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أنَّ طهران تستثمرُ “لحظة غزّة” من خلال أذرعها في المنطقة. تحرّكت فصائلها في العراق وسوريا ضد مصالح أميركية. تحرّكت جماعة الحوثي ضد الملاحة الدولية في البحر الأحمر. وحافظ “حزب الله” على مستوى منخفض، لكنه مُكلِفٌ ودموي، في جنوب لبنان. بالمقابل بقيَ الخطاب الإيراني يردّد مقولة أنَّ الأذرعَ مستقلة وقرارها لا يخضع لأوامر من طهران، وبقي عبد اللهيان يُلمّح إلى قدرة بلاده على خفض التصعيد في المنطقة والتلاعب بمستوياته. وحين كثر الحديث، حتى داخل بيئة “محور المقاومة”، عن سكون وسكوت طهران فيما الأذرع تدفع الثمن، وزّعت إيران صواريخها ضد “الأعداء” في سوريا والعراق، وارتكبت “خطيئة” باكستان.

بدا أنَّ ردَّ اسلام أباد هو سابقة لا تريد طهران أن تصبح نموذجًا يُحتذى. ويتسرّبُ من التقارير أن المؤسّسة العسكرية في باكستان لم تتحمّل الإهانة الإيرانية ولم تسمح بمناقشة كيفية التعامل معها ديبلوماسيا. باكستان دولة نووية كبرى في المنطقة تعيش يومياتها منذ عقود وفق هاجس الصراع والتوازن مع دولة نووية أخرى هي الهند. ووفق هذه الحسابات، فإنَّ هيبة باكستان والردع العسكري الاستراتيجي لهذا البلد في سياق ذلك الصراع، لا يقبلان نيلًا من مناعة البلد ومستويات الردع على حدوده مع إيران. لم يكن القصف المُتبادَل حادثًا حدوديًا عَرَضيًا بل تدهورٌ خطيرٌ استدعى اختصار رئيس وزراء باكستان أنوار الحق كاكار لرحلته إلى دافوس.

تبلّغت طهران بسرعة أنَّ إسلام آباد تأخذ الأمر على محمل الجد، وأنَّ باكستان قد تذهب بعيدًا ومن دون قفازات. صحيحٌ أنَّ بيانات وزارة الخارجية الباكستانية لم تكن تصعيدية بل تولّت مهمة تبريد جراح صفعتها، غير أن ذلك الهدوء الديبلوماسي لم يُطمئن طهران التي اندفعت، بقرارٍ من أعلى قمم القرار، إلى تهدئة باكستان إلى درجة أن أحد المتحدثين الإيراني تكلم عن “انزلاقٍ” يتمّ استيعابه.

لا تريد باكستان أيضًا تسخين جبهتها مع إيران وليست في وارد التصعيد. ردّت إسلام آباد الاعتبار إلى سمعتها وأسمعت “مَن بهم صمم” أصول العلاقات الدولية وقواعد العمل مع الدول الحدودية المجاورة.

وإذا ما اقترحت الصين سريعًا الوساطة بين البلدين فذلك أن لدى بكين معطيّات دقيقة بشأن حسابات باكستان والمُحَرَّم في التعامل معها. بالمقابل فإنَّ الضربة التي تلقتها إيران من جارتها شرقًا سينال حتمًا من أدائها المقبل مع جيرانها غربًا. صحيحٌ أنَّ تداعيات الصفعة لن تظهرَ في القريب العاجل، لكن “نكسة” يوم الخميس رسمت ابتسامة على وجه خصوم إيران في العالم ووضعت في حضن طهران عاملًا جديدًا واعدًا في ضغوطه على إيران.

تواصل مساء الجمعة وزير خارجية باكستان جليل عباس جيلاني مع نظيره الإيراني واتفقا على خفض التصعيد و”التعاون والتنسيق لمكافحة الإرهاب”. أنهى البلدان “الإشكال” وقرّرا إعادة سفرائهما إلى العاصمتين. لكن في طهران مَن يتأمّل الحدث الباكستاني ويستنتج أنَّ ماردًا في الجوار قد تمّ إيقاظه.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى