من شمس الفاتيكان إِلى قَـمَـر بكركي: لبنان نجمُ العائِلات الرُوحـيَّة في البيت الواحد

بقلم هـنري زغيب*

قبل أَن يعودَ البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي من زيارته الأَخيرة إِلى روما و”الأَعتاب المقدَّسة”، سبقَتْه إِلى بيروت أَصداءُ التوجيهات الـﭭـاتيكانية بضرورة تشكيل الحكومة في لبنان قبل أَن يتفاقَمَ انهيار الوضع العامّ. والـمُضمَرُ في “العامِّ” هُنا: الوضعُ الإجتماعيُّ وتوازُن العائلات الروحية في لبنان.
لأَجل هذا التوازن كان الـﭭـاتيكان دومًا يرى لبنان شمسًا مشرقيَّةً تُشرق على المنطقة فتحفظ فيها العيشَ الواحدَ مع العائِلات الروحية الأُخرى. وهو ما بدا لي واضحًا من اهتمام الكرسيِّ البابويِّ في روما بالكرسيِّ البطريركيِّ في لبنان، من كتاب “مُـجلَّد أَسفار ورحلات” (جزآن، 804 صفحات، لندن 1745)، وفي جزئه الثاني كتاب “رحلة إِلى جبل لبنان” (43 صفحة) للأَب جيروم دانديني (تعريب الأَب يوسف يزبك العمشيتي – 1933).
في هذا الكتاب يفصِّل الأَب دانديني رحلتَه إِلى لبنان سنة 1596، أَوفدَهُ إِليها البابا كليمندُس الثامن ليتفقَّد أَحوال الطائفة وشُـؤُونها. وهو قصَدَ البطريرك سركيس الرزِّي في قنوبين لِـمناقشته في أُمورٍ طقسيةٍ تَـجري في غير السياق الـﭭـاتيكانيّ. لكنه لم يتمكَّن من ذلك لأَن البطريرك كان في أَيامه الأَخيرة وتُوُفِّـي في أَيلول (سبتمبر) 1597. بعد أَيَّامٍ شهدَ الأَب دانديني إنتخابَ البطريرك الخلَف يوسف الرزِّي بالإِجماع، فكان للبطريرك الجديد أَن يأْمر باتِّباعِ الطائفة المارونية التقويمَ الغريغوريّ، وفْقَ تعليماتٍ حملها دانديني معه من الأَب الأَقدس.
ومن اهتمام الكرسيّ الرسوليّ بأَحوال الطائفة في لبنان وسائِر المشرق كان للأَب دانديني، إِبَّان وجودِه في لبنان، أَن يُشاركَ بِاسْم البابا كليمندُس في “مَـجْمَع قنوبين” (أَواخر 1597)، وما هيَّأَ له البطريرك الرزِّي من تعديلاتٍ طقسيةٍ صوَّبَت ما كان على عهد أَسلافه من إِيمانٍ بطبيعة المسيح الواحدة، وإِنكارِ الخطيئَةِ الأَصلية ويومِ القيامة، وظروفِ الطلاق في حالة الزنا، وتشريعاتٍ أُخرى كان دانديني نقلَها مُـصَـحِّحًا ما كانت عليه، فباتت أَكثرَ انتماءً إِلى روما مِـمَّا كان قبلَها في الشعائر والممارسات والكتُب الطقسية.
قضى الأَب دانديني نحو 3 سنوات مُتَجَوِّلًا في مناطقَ من جبل لبنان يَسكُنُها الـمَوارنة، وسرَدَ في كتابه تفاصيلَ من الحياة اليومية في الـمجتمع الماروني روحيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وعمرانيًّا، فإِذا كتابُهُ اليوم من أَبرز الـمَراجع للاطِّلاع على الحياة فَتْرَتَئِذٍ في جبل لبنان.
كلُّ هذا ليَظهر جليًّا أَنَّ إهتمامَ البابا بِشُؤُون المسيحيين في لبنان ليس ظرفيًّا وَفْق عهُودٍ وأَحداثٍ بل وَفْق رؤْية الـﭭـاتيكان إِلى لبنان: لا أَنه “غيتو” للمسيحيين بل وطنٌ منفتحٌ نَـموذجٌ فريدٌ في الشرق للعيش الواحد بين عائِلاته الروحية. ويَزيد من هذه الرؤْيةِ المسؤُولةِ إستقبالُ البابا فرنسيس (16/10/2018) شيخَ الأَزهر الإِمامَ الأَكبر رئيسَ مجلس حُكَماء المسلمين الدكتور أَحمد الطيِّب.
وهذا الإنفتاح هو الذي يجعل الـﭭـاتيكان، في إهتمامِهِ بلبنان، دائمَ التطلُّع الأَبَويِّ إِلى بُـــنُــوَّة بكركي.

• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى