مسارٌ أميركي جديد في الشرق الأوسط؟

بقلم مروان المعشّر*

يَسودُ اعتقادٌ كبير لدى شرائح واسعة من المجتمعات العربية أنه لا فرق في رؤية ومواقف كل من جو بايدن ودونالد ترامب حين يتعلق الامر بالسياسة الأميركية تجاه القضايا العربية. وقد ساهم الموقف الأميركي المُتحَيِّز تجاه اسرائيل من قبل الحزبين الجمهوري والديموقراطي إلى حدٍّ كبير في بلورةِ قناعةٍ شعبية عربية مفادها أن لا فرق “بين الخل والخردل”، وبالتالي لا يعني الكثير للعالم العربي إن ربح بايدن أو خسر ترامب رئاسة الولايات المتحدة.

بعيداً من العواطف، هناك ثلاث قضايا رئيسة على الأقل سيختلف فيها أداء الولايات المتحدة بدخول جو بايدن بدلاً من دونالد ترامب إلى البيت الأبيض:

أولاً: القضية الفلسطينية. تعاطفت إدارة ترامب الى أبعد الحدود مع الجماعات التبشيرية المُتشدّدة داخل الولايات المتحدة، ولأغراضٍ انتخابية، إضافة إلى العلاقة الشخصية والإيديولوجية بين جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وقد نتج عن ذلك خطة أميركية منحازة بالكامل لإسرائيل، دُعيت زوراً ب”صفقة القرن”، وأعطت إسرائيل ضوءاً أخضَرَ لضمِّ مساحاتٍ واسعة في الضفة الغربية إضافة إلى القدس الشرقية، ما سيقتل أي امكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة على التراب الفلسطيني، وما سيُهدّد الأمن القومي الفلسطيني والهوية الوطنية الاردنية على حد سواء. صحيح أن الرئيس بايدن لن يعكس العديد من قرارات سلفه وعلى رأسها نقل السفارة الاميركية الى القدس. وصحيح أيضاً أن النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي لن يحظى بأولوية كبيرة لدى الإدارة الأميركية الجديدة التي ستصبّ جُلَّ اهتمامها على محاولة رأب الإنقسام الداخلي الأميركي. إلّا أنه بالمقابل ستتخلّى إدارة بايدن عن خطة ترامب، ولن تُعطي إسرائيل الضوء الاخضر لضمّ الأراضي الفلسطينية ومُخالَفة القوانين الدولية التي أقرّتها الولايات المتحدة نفسها. كما لن تتجاهل إدارة بايدن الدور الأردني، كما تجاهلته الإدارة السابقة، مما سيعيد العلاقة الأردنية-الاميركية أقرب لما كانت عليه قبل قدوم ترامب.

ومن ناحية أخرى، لن تُمارس إدارة بايدن الضغوط ذاتها التي مورست على دولٍ عربية للتطبيع مع إسرائيل من دون طلب أي ثمن يُذكر منها. وفي حين سعت بعض هذه الدول كالإمارات والبحرين إلى هذا التطبيع خدمةً لأغراضها ومصالحها وبالأخص الملف الايراني، فإن دولة كالسودان تعرّضت لضغطٍ واضح من إدارة ترامب للتطبيع، وكان من المرجح أن تستجيب دول أخرى لهذا الضغط، الأمر الذي كان لو حصل سيقتل مبدأ الأرض مُقابل السلام بالكامل.

ثانياً: ملف القيم وحقوق الانسان. من النادر أن تُغلِّب أي دولة في العالم قِيَمها على مصالحها في تعاملها مع العالم الخارجي، ولا تختلف الولايات المتحدة في ذلك عن غيرها من الدول. ولكن وجود ترامب على سدة الحكم أعطى انطباعاً أكيداً للعالم أن القيم الإنسانية وحقوق الانسان لا تحظى بأي اهتمام لديه، وانه تبعاً لذلك شعر العديد من الدول، ومن بينها دول عربية عديدة، أنها تستطيع التمادي في موضوع انتهاك هذه الحقوق من دون أي مُساءلة من حليفتها الكبرى — أي الولايات المتحدة. ولا داعي لذكر الأمثلة العديدة الماثلة أمامنا في المنطقة. وفي حين ستواصل الولايات المتحدة تغليب مصالحها على القيم الانسانية خارجياً، إلّا أن الضوء الأخضر التي افترضته العديد من دول المنطقة لتعميق سياساتها السلطوية سيخفت على الاقل.

ثالثاً: الملف الايراني. لقد أيّدت غالبية الدول الخليجية ادارة ترامب بناءً على موقفها المُتشدّد تجاه إيران، وشعرت بأن ادارة أوباما توصّلت لاتفاقٍ نووي مع إيران على حساب التدخّل الإيراني في المنطقة، بمعنى أن الاتفاق النووي لم يشترط وقف هذا التدخّل، وأدّى الى تمادي إيران في التدخل السياسي والعسكري في دول عدة في المنطقة، بما فيها العراق ولبنان وسوريا، إضافة إلى دول الخليج.

إن أي سياسة أميركية جديدة تجاه إيران يجب أن تأخذ هذه المخاوف في الإعتبار. ولن يستطيع بايدن أن يُعيدَ عقارب الساعة الى الوراء، وأن يُنفّذ الإتفاق النووي القديم كما كان من دون أخذ مخاوف دول الخليج في الإعتبار. كما أن الوضع الإقتصادي الإيراني اليوم سيّىء للغاية، وبخاصة بعد جائحة كورونا، ما قد يُساعد على فرضِ شروطٍ جديدة على إيران للحدّ من تدخّلها في المنطقة.

لا يحظى الشرق الاوسط اليوم بأولوية كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية، فالحقبة النفطية في أفول، وهناك شعورٌ مُتزايد لدى المستويات الرسمية والشعبية الأميركية، وخصوصاً بعد حرب العراق، أن التدخّلات الأميركية في المنطقة لم تأتِ بنتائج إيجابية، وأن سياسة دعم الإستقرار من خلال الأنظمة السلطوية لم تمنع الثورات العربية في المنطقة. كما بدأت الولايات المتحدة، ومنذ زمن، تحويل أنظارها واهتمامها نحو الصين. ومن المتوقع أن يُغير بايدن السياسة المُتَشَدِّدة لترامب تجاه الصين، وذلك نحو سياسةٍ تُواصُل النظر الى هذا البلد كمنافس اقتصادي وإيديولوجي، لكن من دون اللجوء إلى المواجهة المباشرة والعدائية، كما فعلت الإدارة الحالية، لا سيما في ظل العلاقات الجيدة لبكين مع بعض القوى في المنطقة باستثناء روسيا. وسينعكس ذلك على النشاط الإقتصادي والتنموي المتزايد للصين في المنطقة إذ لن يُواجَه بالشكوك ذاتها للإدارة السابقة حول الأهداف الحقيقية لبكين. في المقابل، ستُحاول الصين تحقيق توازن بين المصالح الإقتصادية ومواقفها السياسية من بعض قضايا المنطقة، وذلك تحسّباً لاستعداء الولايات المتحدة.

لكن انحسارَ الإهتمام الاميركي بالمنطقة لا يعني عدم الإكتراث بنتائج الإنتخابات الأميركية، او النظر الى السياسة الخارجية لواشنطن في المنطقة وكأنها لا تتأثر إطلاقاً بمَن يفوز من الحزبين. صحيح أن فوز بايدن قد لا يُؤثر إيجابياً في المنطقة، ولكن ذهاب ترامب سيأخذ معه ضوء أخضر كان سيسمح لإسرائيل بابتلاع الأراضي الفلسطينية بغطاء أميركي، كما كان سيسمح للعديد من دول المنطقة التمادي بانتهاك قيم انسانية عديدة، وبغطاء أميركي أيضاً.

  • الدكتور مروان المُعَشَّر هو وزير الخارجية الأردنية السابق، وهو حالياً نائب الرئيس للدراسات في مؤسسة كارنيغي، حيث يُشرف على الأبحاث في واشنطن وبيروت حول الشرق الأوسط. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @MarwanMuasher

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى