سياسة أميركا في سوريا غير مُتَّسقة، ولا توجد علامة على أنها ستتغيَّر
بعد أكثر من سبع سنوات من النزاع، أصبحت سوريا ميدان المعارك الوحيد في العالم حيث تنشط القوى العسكرية الأميركية والروسية والتركية والإسرائيلية، وقوات النظام و”حزب ال”ه» اللبناني، والميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران، والحركة القومية الكردية، ومروحة واسعة من مجموعات المعارضة السورية، من المعتدلين الذين تدعمهم أميركا إلى المتطرفين المتحالفين مع “القاعدة” و”داعش” – ويضاف إلى هذه النشاطات كلها ضربات سلاح الجو الإسرائيلية الدورية. وتسلط هذه المرابطة العسكرية الواسعة الضوء على أهمية سوريا في ساحة التنافس الاستراتيجية في الشرق الاوسط اليوم: تنافس بين القوى الكبرى وتنافس بين القوى الإقليمية. وسوريا وازنة في ميزان المصالح الأميركية، فهي مسرح عاصمة “داعش” السابقة، وقد تتحوّل إلى ميدان طور جديد من العنف الجهادي السنّي، وهي حلقة حيوية من حلقات سعي إيران إلى السيطرة على ممر بري من المتوسط إلى جنوب غرب آسيا، وسعيها (طهران) إلى فتح جبهة جديدة مع إسرائيل. وسوريا دولة (حلقة) مركزية، ولو أن قبضتها ضعفت وتراجعت مكانتها، وتملك ترسانة كيماوية خطيرة وهي مستعدة لاستعمالها، وهي جبهة أمامية في أكثر النزاعات المتقلبة الأوجه، بدءاً من النزاع العربي – التركي – الكردي في شمالها (الشمال السوري)، وصولاً إلى النزاع الإسرائيلي – الإيراني – “حزب الله” في جنوبها. وسوريا كذلك مصدر محتمل لسيل ضخم من اللاجئين يُهدّد استقرار دول الجوار (لبنان والأردن) وأوروبا؛ وهي منصة أو بوابة بحرية روسية واستخباراتية في شرق المتوسط؛ وهي موقع أكبر محاولة كورية شمالية رامية إلى الإنتشار النووي: تشييد منشأة بلوتونيوم في قاعدة الكبر.
ومع ذلك تبقى السياسة الأميركية هناك غير مُتّسقة، لماذا؟
بقلم ستيفن ميتز*
مع دخول الحرب الأهلية المأسوية في سوريا عامها الثامن، من المستحيل فهم إستراتيجية إدارة دونالد ترامب إذ أنها تتحرّك في اتجاه ثمّ لا تلبث أن تتحول إلى إتجاه معاكس آخر مراراً وتكراراً. الواقع أن السياسة الأميركية في بلاد الشام غير متماسكة تماماً، وليس هناك ما يشير إلى أنها ستتغير.
إن موقف الرئيس دونالد ترامب من سوريا، الذي عبّر عنه أكثر من مرة في رسائله على “تويتر” أكثر من تصريحات سياسية رسمية، تأرجح بشكل كبير حتى قبل إنتخابه رئيساً. في حزيران (يونيو) 2013، على سبيل المثال، زعم أن على الولايات المتحدة أن “تبقى خارج سوريا”. ولكن بعد شهرين، بعد أن استخدم الرئيس السوري بشار الأسد الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، دعا ترامب إلى توجيه ضربة عسكرية أميركية وانتقد بشدة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عندما لم يفعل ذلك.
وعندما وصل إلى البيت الأبيض، ركّز ترامب في البداية على هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي كان يسيطر في ذلك الوقت على مدينة الرقة السورية الشمالية التي أعلنها عاصمة ل”الخلافة”. وقام بتوسيع الدعم للميليشيات المحلية التي تقاتل المتطرفين وزاد من الضربات الجوية والمدفعية الأميركية المباشرة. ولكن بعد سقوط الرقة وتشتت “الدولة الإسلامية”، بدا أن إدارة ترامب ليست لديها فكرة واضحة عن كيفية تحويل نجاح ساحة المعركة إلى نصر استراتيجي. بحلول آذار (مارس) 2017، كان مسؤولو الإدارة يقولون إن الولايات المتحدة لن تُشارك في تحديد مستقبل سوريا للمدى الطويل.
لكن بعد شهر، بعد هجوم كيميائي آخر من قبل نظام الأسد، أمر ترامب بضربة صاروخية على قاعدة جوية سورية. “الخطوات جارية”، إقترح وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون، لإنشاء إئتلاف دولي لإزالة الأسد. بعد ذلك بقليل، قال تيلرسون إن الولايات المتحدة قد تتوسط لوقف إطلاق النار الذي يشمل الأسد، بينما أعرب كلٌّ من نيكي هايلي، سفيرة ترامب في الأمم المتحدة، وإتش آر ماكماستر، مستشار ترامب للأمن القومي في ذلك الوقت، عن شكوكهما حيال حل سياسي يترك الأسد في السلطة.
في أواخر صيف العام 2018، تصاعد الإرتباك. أشار الرئيس إلى أن الولايات المتحدة لن تلعب دوراً في إعادة الإعمار في سوريا على الرغم من التقارير التي تفيد بأن القادة العسكريين الأميركيين شعروا أن ذلك ضروري لمنع إحياء وعودة تنظيم “الدولة الإسلامية”. وفي الوقت الذي أشار ترامب إلى أنه يريد “الخروج” من سوريا، فإن مسؤولين في الإدارة مثل جيمس جيفري، وهو ديبلوماسي متقاعد عينه وزير الخارجية مايك بومبيو أخيراً ممثلاً خاصاً للولايات المتحدة لمتابعة الشؤون السورية، قال في وقت سابق من الشهر الفائت إن القوات العسكرية الأميركية ستبقى لوقت غير محدد. وفي الأسبوع الفائت، تحول مستشار الأمن القومي جون بولتون إلى هدف مختلف، مُعلناً أن القوات الأميركية لن تغادر سوريا “طالما أن القوات الإيرانية خارج الحدود الإيرانية”.
كل هذا يُشكل عدم ترابط وعدم تناسق، وليس مرونة. ويعكس ذلك جزئياً التناقض الأوسع في عملية صياغة سياسة ترامب، حيث يُمكن لأي تغريدة رئاسية أو ملاحظة غير متوقعة تغيير كل شيء. ومع عدم وجود خبرة لديه في سياسة الأمن الخارجي أو الوطني، وعدم وجود مفهوم شامل لديه حول الغرض من القوة الأميركية، وأسلوب شخصي يُركّز على ردود مُفصَّلة على المشاكل الفورية بدلاً من مقاربة طويلة المدى للتحديات المختلفة، فإن ترامب هو النقيض لخبير استراتيجي. وهو يعمل من دون رؤية واضحة للشرق الأوسط أو الأمن الأميركي الكبير في العقود المقبلة، أو لكيفية تحقيق التوازن بين الفوائد الأمنية ضد التكاليف والمخاطر. لا شك أن لدى كبار مستشاري ترامب عقلية إستراتيجية أكثر، لكنهم في بعض الأحيان يكونون على خلاف في ما بينهم، وبعد إتخاذهم موقفاً عاماً، غالباً ما يُناقضهم الرئيس أو يُقوّض موقفهم.
إن السياسة الأميركية في سوريا غير متماسكة أيضاً لأن الولايات المتحدة، من بين جميع الأمم والجماعات غير الحكومية المُتورّطة هناك، ليس لديها إحساس واضح بأولوياتها الاستراتيجية. يعرف كلٌّ من الأسد وتركيا وإيران وروسيا ما يريدونه وما هو السعر الذي هم على استعداد لدفعه للحصول عليه. أميركا لا تفعل ذلك. لفترة من الوقت، كانت هزيمة “الدولة الإسلامية” أمراً بالغ الأهمية، على الرغم من أن لا إدارة أوباما ولا إدارة ترامب وضّحت تماماً سبب أهمية ذلك بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي. ثم كان هدف أميركا هو ردع الهجمات الكيميائية، على الرغم من أنه لم يكن من الواضح أبداً لماذا كان ذلك غير مقبول بينما كان العنف التقليدي الشديد مقبولاً. في أوقات أخرى، تبدو واشنطن قلقة من الكارثة الإنسانية في سوريا لكنها غير راغبة في استقبال اللاجئين. في بعض الأحيان، تريد الولايات المتحدة الحدّ من النفوذ الروسي، ولكن في أوقات أخرى لا يبدو أنها تهتم. في الآونة الأخيرة، ربط بولتون وجود القوات الأميركية في سوريا لاحتواء إيران. لكن لم يشرح أحد في الإدارة كيف يُمكن لنشر قوات أميركية صغيرة أن يُحبط التطلعات الإيرانية الأوسع أو يردع طهران عن دعم الأسد، الذي تعتبره مصلحة وطنية حيوية.
عند هذه النقطة، ليس هناك ما يشير إلى أن أياً من هذا سوف يتغيّر وأن سياسة أميركية متماسكة ستظهر في سوريا. إن الرؤساء الأميركيين السابقين الذين تولوا مناصبهم بخبرات محدودة في مجال الأمن القومي، مثل بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وباراك أوباما، طوّروا في نهاية المطاف إحساساً بالاستراتيجية. ليس هناك ما يشير إلى أن ترامب سوف يفعل أو يصل إلى هذا الإحساس. ومع ذلك فهو غير راغب في تفويض السيطرة على سياسة الأمن القومي إلى كبار مستشاريه، ما يعني جعلهم “الرئيس الإستراتيجي”.
مع وجود فرصة ضئيلة جداً لإدارة ترامب لوضع أولويات واضحة في سوريا، تكثر الأسئلة. هل أن منع عودة “الدولة الإسلامية” هو من أهم أهداف الولايات المتحدة في سوريا؟ أم إحتواء إيران؟ ربما الحفاظ على النظام الإقليمي؟ أو ربما وضع قيود على ما يُمكن أن يفعله الديكتاتوريون لشعوبهم؟ هل هو الحفاظ على علاقة أمنية مع تركيا، أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي – أو المساعدة في الدفاع عن إسرائيل؟ شيءٌ آخر؟ لا أحد يعرف. إن أفضل ما يمكن أن نأمل فيه هو تجنّب الفشل التام. ولكن في مواجهة إستمرار عدم إتساق السياسة وتضاربها، لا يوجد ضمان لذلك.
• ستيفن ميتز هو كاتب وباحث أميركي، مدير البحوث وأستاذ باحث في شؤون الأمن القومي في معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لكلية الحرب الأميركية، حيث تخصّص في التمرد ومكافحة التمرد، وسياسة الدفاع الأميركية، والنظرية الاستراتيجية، والبيئة الأمنية الأفريقية، وحرب المستقبل، وهو مؤلف كتاب “العراق وتطور الإستراتيجية الأميركية”. يمكنك متابعته على تويتر @ steven_metz.
• كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.