يتذَمَّرون ….. ويرقصون
بقلم الدكتور هيكل الراعي*
يُكثِر اللبنانيون في غالبيتهم من التذمّر والشكوى، حتى لتشعر وأنت تستمع إلى “معاناتهم” و “مآسيهم” كأن لبنان يعيش حالة إنهيار ودمار وتفكك، أو هو على شفير ذلك. لقد أصبح التذمّر من الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل وإستنتاج العبر نظراً إلى إنعكاساتها السلبية المُدمِّرة.
هل الأوضاع سيئة إلى هذا الحدّ، وإذا كانت فعلاً كذلك فلماذا يقبل كثيرون بها ولا يقومون بأي تحرك مُنظَّم لمواجهتها؟
لا يلتقي لبنانيان إلا وتكون الشكوى ثالثهما. يبدأ الحديث عن الطبقة السياسية وسلوكياتها وفسادها وتحكّمها برقاب الشعب الذي أعاد إنتخابها والتجديد لها، مروراً بالأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان وانعكاساتها المالية المُحتملة، وصولاً إلى الفساد وإنهيار منظومة القِيَم والأخلاق التي تضبط حركة المجتمع.
لا يهمل اللبنانيون في شكاويهم أزمات النفايات والمياه والكهرباء والهاتف والتلوّث والسير وغلاء الأسعار وارتفاع الأقساط المدرسية والجامعية وغياب التغطية الصحية وموت المرضى على أبواب المستشفيات… ولكن المفارقة هي أنك عندما تستمع إليهم تشعر وكأنهم يتحدثون عن دولة أخرى أو عن مجتمع آخر وليس عن دولتهم ومجتمعهم اللذين يعيشان فيهما واللذين إنتخبوا فيهما قبل أشهر مجلساً نيابياً جديداً. ذلك لأن الشكوى تنتهي بالتوصيف وبالمقولة الشهيرة “فالج لا تعالج” وليس بالتكاتف والتضامن بين مواطنين مسؤولين واعين لإحداث التغيير المطلوب.
نواب طائفتهم ووزراؤها وقياداتها الحزبية والدينية هم ملائكة أو قديسون أما المسؤولون الآخرون فهم سبب الخراب وكل الشرور. يشتمون المسؤولين والوزراء والأحزاب وقياداتها ليل نهار ثم يتسابقون للدفاع عنهم وعنها وتبني شعاراتها. حتى الذين غادروا لبنان بفضل صراعات وحروب هذه الأحزاب و”إنجازاتها” التهجيرية تراهم يحملون أعلامها وشاراتها في ألغربة ويتباهون بانتمائهم إليها.
يعيش غالبية اللبنانيين حالة إنفصام بين التذمر المتكرر من سوء الأحوال وبين الادعاء والتباهي والتفاخر بترتيب الأمور. فالذي يوجه أقسى الإنتقادات للسياسيين تجده في صالوناتهم يُمجّد كل كلمة ينطقون بها، والذي يشكو من توقف الأعمال وتراجع المداخيل تراه يعيش حالة ترف وبذخ. والذي يطالب بمحاربة الفساد يتباهى بأنه أنجز معاملته في دائرة رسمية ودفع رسوماً أقل بفضل إكرامية قدمها لموظف. تكريم السارقين للمال العام وتجار المخدرات والفاسدين في الإدارة والأمن والقضاء أصبح موضوع إفتخار، أما الموظفون الشرفاء فهم أغبياء لأنهم لم يستفيدوا من وظائفهم. تجارة العلم والشهادات أصبحت رائجة، وتوظيف الدين لتحقيق الأرباح أصبح سلوكاً مقدراً. لا يكاد يخلو بيت من العاملات الأجنبيات، والسيارات الحديثة تجدها عند الغالبية، والإنفاق على السهرات والمناسبات المُكلفة وغيرها أصبح سلوكاً إجتماعياً عاماً، وليس ضرورياً السؤال عن مصادر المال، ورغم ذلك تجد لغة التذمر والشكوى سائدة.
هل هناك فعلاً أزمات مستعصية تُهدد مستقبل لبنان أم إن التذمر أصبح لغة سائدة يُجيدها اللبنانيون على قاعدة أن الشكوى تبعد الحسد؟ هل هناك فعلاً شعب يمكن أن يُحاسِب يوماً فيقوم بتغيير هذه الطبقة أم سيكتفي بالتغني بما تفعل الشعوب الأخرى؟ يبدو أن الوضع ليس على شفير الإنهيار واللبنانيون بطبيعتهم وبثقافتهم لا يعجبهم العجب، إلى حد أنهم تظاهروا في جهنم للمطالبة بإطفاء النار وتركيب مُكيِّفات تقيهم الحر كما تقول تلك الفكاهة.
• دكتور هيكل الراعي هو أكاديمي وكاتب لبناني كان مديراً سابقاً لكلية العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية – البقاع.