من رَخاوة العقل إِلى رَخاوة الهوية

بقلم هنري زغيب*

مع اعتراف منظمة الأُمم الـمتحدة في 20 أَيار (مايو) 2002 باستقلال جزيرة “تِيْمُور” (Timur) (قارَّة أُوقيانيا) بعد أَربعة قرون من الإستعمار الـﭙُـرتغالي، خرجَت إِلى الإِعلام خصائصُ في هذه الجزيرة يَهمُّني منها هنا أَن شعبها يُــحافظُ على لغته الأُمّ شِفاهًا وكتابةً، مع أَنَّ الـﭙُـرتغالية تكرَّسَت لغةً رسميةً للبلاد.

اللغةُ الأُمّ تتشوَّه حتى خطَر الإندثار حين تتسرَّب إِلى أَلفاظها شِفاهًا أَو كتابةً كلماتٌ أَجنبية من خارجها تنخُرُها، أَو كلماتٌ هجينة تَدخُلها بِـحُروفها هي في خليط مائع.

هذه الظاهرة الـمَرَضية لا علاقةَ لها بالتراشُح بين اللغات، أَو بتلاقُح لغوي يُـثْري اللغةَ الـمنقولَ إِليها. ولغتُنا مُفْضِلة على لغاتٍ كثيرةٍ في العالـم دَخَلَـتْها أَلفاظٌ عربية وترسَّخت في نسيجها اللغوي.

جئتُ بهذا الـموضوع، وما زلتُ أُكرِّره دوريًّا، لأَقول إِن الـمُتداوَل اليوم في الإِعلام والإِعلان، واستطرادًا في قاموس التواصل الإجتماعي، يشكِّل خطرًا بطيئًا يـُخَلخِل التعامُلَ مع اللغة والتخاطُبَ بها.

قرأْتُ في إِحصاء أَخير أَن اللغة العربية “تشهد انتشاراً على “توِيتِـر”، ثاني أَكبر موقع مقصود في العالـم، بلغ مستخدِموه العرب نحو 6 ملايين، بزيادة سريعة كل عام”. ولهذا الإنتشار فضلُه في سرعة التواصل لكنَّ له سيئَاتٍ كبرى عند سوء استعماله، وخصوصًا في وسائل الإِعلام، مسموعِها والـمرئي، لكثرة ما تَــبُثُّ في جمهورها كلماتٍ أَجنبيةً يتلقَّفُها الـمُتلقِّي خليطةً فتصبح “طبيعية” عنده تنخُر عقله بـكَسَل البحث عن الكلمة العربية الـمُلائمة، عدا أَنَّ مَن يستعمل دائمًا لغة واحدة في مخاطبته (العربية عندنا) يبدو لِـكَسالى العقل “غيرَ مُـثقَّف”، كأَنما إِدخالُ كلماتٍ من لغة (أَو لغات) أُخرى خلال الـمُخاطبة، دليلُ “ثقافة إجتماعية راقية”.

أَين “قلَّة الثقافة” في استخدام كلمة “وَسْم” بدَل “هاشتاغ”، و”بطاقة” أَو “دعوة” بدَل “تاغ”، و”رواج” بدل “تْــرِنْد”، و”إِرسال” بدَل “كُونِّــكْـشِـن”، و”تغريدة” بدَل “تْوِيتْ”، و”اجتماع” بدَل “مــيــتِــنْغ”، و”نشاط” أَو “حَدَث” بدَل “إِيــﭭِــنْت” (والأَسخَف في جـمْعها “إِيـﭭــنـتَـات”) وهو ما نلاحظه في الـمقابلات التلـﭭـزيونية أَو الإِذاعية حين سؤَالُ الـمذيع/الـمذيعة خليطٌ عربي/إِنكليزي/فرنسي، وجوابُ الضيف/الضيفة من هذا الخليط الـممجوج ذاته، تمامًا كما كتابةُ الإِعلانات عربيَّةً بأَحرف لاتينية عن مُنْتَجٍ لبناني أَو عربي أَو مكان أَو احتفال!

هل يرضى الإِنكليزي أَو الصيني أَو الياباني أَو سواهم بهذا التشويه الرَخْو ينخُر لغته الأُمّ؟

أَعود فأُكرِّر: من الخير رواجًا للُّغة العربية استخدامُها في التواصل الاجتماعي، واللغة العربية كريمةُ الطواعية، إِنما من السُمِّ القاتل استخدامُها مشوَّهَةً في اللغة الإِلكترونية، هي الـمنفتحةُ من زمان على جميع لغات العالـم إِغناءً سِواها واغتِناءً من سِواها.

أَربعة قرون من الاستعمار الـﭙُـرتغالي لم تُشَوِّه لغةَ تِيمُور، والعربيةُ اليوم، في الـمُخاطبة والـمُكاتبة، تتزايد موضةُ خلْطِها بكلمات أَجنبية فتزداد رخاوةُ العقل في جهْدِ بَـحْـثـه عن الكلمة العربية الـمُلائمة.

ورخاوةُ العقل كسَلٌ خطيرٌ يؤَدِّي تباعًا إِلى… رخاوة الهوية!

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: email@henrizoghaib.com أو متابعته على:henrizoghaib.com أو  www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى