فلسطين “قضية الغرب الأولى”

محمّد قوّاص*

ليسَ في عنوانِ المقالِ خطأ إملائي. نعم فلسطين قضية الغرب الأولى على منوال ما درجَ أن تكون عليه منذ عقود بالنسبة إلى العرب. وإذا كان مَنطقَ الأمور أن فلسطين جُزءٌ من التاريخ السياسي للمنطقة العربية وجُزءٌ من حكاية العالم العربي، فإنَّ اهتمامَ الغرب بقضية فلسطين ارتبطَ بشكلٍ مباشر بموقف الغرب من إسرائيل والحرص على منحها الدعم والرعاية والتأييد.

وفيما عرفَ العالمُ في العقودِ التي تلت الحرب العالمية الثانية قضايا شعوبٍ تَنشُدُ الاستقلالَ والتحرّرَ وإنشاءَ دولها القوميّة، غير أنه تعاملَ بإهمالٍ مع نزاعاتٍ مثل تلك التي تتعلّق بالأكراد في 4 دول، أو التاميل في سريلانكا، أو الأرمن في ناغورنو كاراباخ، أو النضال سابقًا ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أو توق كاتالونيا واسكتلندا للانفصال عن إسبانيا وبريطانيا على التوالي، أو قضية الإيغور والتبت في الصين على سبيل المثال لا الحصر. ولم تحظَ تلك القضايا بإجماعٍ غربي يجعلُ أيًّا من هذه النزاعات “قضية غربية”.

في العام 1946 كتب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: “ليسَ هناك تاريخٌ يهودي، بل أنَّ مُعاداةَ السامية هي التي تفرضُ على اليهودي أن يختارَ أن يكونَ يهوديًا”. لكنه في العام 1949 كتب شيئًا مُضادًا: “وجب الشعور بالسعادة بأنَّ دولةً إسرائيلية تأتي لإضفاءِ شرعيةٍ على آمالِ نضالِ يهود العالم”. وحين انتقل خلال 3 سنوات من نفيِ وجودِ حكايةٍ يهودية خاصة إلى الاعتراف بهذه الخصوصية، اكتشف بالمناسبة أيضًا أنَّ “إقامة دولة فلسطينية يجب أن تُعتَبَرَ أحد أهمّ أحداث عصرنا الذي يمكن أن يحفظ الأمل”. ووفق هذا التردّد وهذه الحيرة تعامل الغرب مع “قضية فلسطين”.

فلسطين وفق قراءة الغرب هي فرعٌ من أصلٍ وردِّ فعلٍ على فعل وهي لاحقٌ على سابق. لم يتعامل الغرب مع قضية فلسطين إلّا من خلال عيون إسرائيل وعبر منافذ وبوّابات لصيقة بحاضرها ومستقبلها تأخذ بالاعتبار أوّلًا وأخيرًا أمنها وديمومتها وبقاءها. وإذا ما تأمّلنا مواقف كل الدول الغربية إثر عملية حركة “حماس” في غلاف غزة في7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي فإنّها كلّها، وبإيقاعاتٍ مختلفة ولهجاتٍ متفاوتة، نهلت من هذا المنطق وقامت على قاعدةِ دَعمِ ما من شأنه أن يُمثّلَ وحدة حال غربية-إسرائيلية. وإذا ما اعتبر الغرب أنَّ فلسطين قضية مهمة وتحظى بانشغال المنظومة الغربية، فليس اعترافًا بعدالتها، بل لأنَّ المعنيّ بأمرِ هذا النزاع هو إسرائيل.

والواقع أنَّ إسرائيل هي ركنٌ من أركان المنظومة الغربية وعمودٌ من أعمدة سرديتها السياسية والقيميّة بعد الحرب العالمية الثانية. وهي أيضًا جُزءٌ من توازنات الأمن الاستراتيجي الغربي في المنطقة والعالم. والتسليم بانتماء إسرائيل إلى الحضارة المسيحية-اليهودية الغربية يُسقِطُ مقولات راجت لدى إيديولوجيّي العالم العربي الذين رَؤوا في الدولة الوليدة في العام 1948 رأسَ جسرٍ غربي في الشرق الأوسط. وعلى الرُغمِ من تمسّكِ العقائد القومية العربية بهذا التوصيف القاصر والمحدود، فإنَّ دولَ المنطقة استنتجت لاحقًا أنَّ إسرائيل هي متنٌ وليست هامشًا (أو رأسَ جسر فقط) داخل المنظومة العقائدية والجيوستراتيجية الغربية.

في العام 1937 وفي معرض تعليقة على “الأحداث الجارية في فلسطين” (قمع بريطانيا للانتفاضة الفلسطينية) قال ونستون تشرشل: “لا أقرُّ بأنَّ ظُلمًا وقعَ على الهنود الحمر في أميركا أو ذوي البشرة السوداء في أوستراليا (…) لأنَّ عرقًا أقوى وأعلى مكانةً وأوسع حكمة ومعرفة قد جاء واحتلّ مكانهم وبلادهم”. جاءت تلك الكلمات في عنصريتها لتبرير الموقف من الفلسطينيين.

وفق قانون التفوّق هذا وتميّز الأعراق وجبت قراءة الموقف الغربي من قضية فلسطين. وبناء على هذا الواقع يتمّ الاستنتاج أن فلسطين “قضية الغرب” أيضا وتصبح قضية أولى في كل مرة تؤثّر استحقاقاتها على مصالح إسرائيل. صحيح أنَّ هناكَ مجموعات ضغط (Lobbies) حيوية مستنفرة وتعمل لصالح إسرائيل في كل الدول الغربية من دون استثناء، غير أنَّ الأمرَ عضويٌّ مَنطقيٌّ يقومُ داخل بيئة مؤسّساتية ودستورية وقانونية وتربوية وإعلامية ودينية حاضنة لإسرائيل فكرةً وروايةً ونظامًا سياسيًا واجتماعيًا وأمنيًا وعسكريًا.

ويسهلُ الإستنتاجُ بأنَّ موقفَ الغرب من قضية فلسطين، سواءَ من قبل الحكومات أم لدى الأحزابِ والتيارات السياسية أم داخل الدوائر المُعارِضة والداعمة تقليديًا للمسألة الفلسطينية، يقومُ على قاعدة حقّ إسرائيل في الأمن والوجود. ولئن يتناقض منطقُ المُدافعين عن فلسطين والفلسطينيين ومأساتهم الجديدة في غزة مع منطق الحكومات ومنابرها الرسمية، غير أنَّ في هذا الجدل تنافسُ وجهاتِ نظرٍ بشأنِ المداخل الأنجع لضمان أمن إسرائيل ومستقبلها بين دعاة تأييد المقاربات الأمنية والعسكرية التي تعتمدها و ودعاة التسوية السلمية التي، من خلال دولة فلسطينية ما، تضمن بشكلٍ أولوِي أمن إسرائيل.

ولم تكن هذه المعادلة بعيدة مما تطوّر في الفكر السياسي العربي وتحوّلات الموقف العربي العام من قضية فلسطين. إستنتجت المنطقة عبر تجارب الحروب المُدمّرة من تلك التي وقعت في العام 1948 إلى تلك المندلعة في غزة منذ أسابيع أنَّ إسرائيل هي شأنٌ غربي بالمُطلَق، وأنَّ عجزَ المنطقة عن فرض منطقها الفلسطيني بالسُبُلِ العسكرية يعودُ إلى قرارٍ غربي واضح ومُعلَن بمنع ذلك. امتدّ هذا التطوّر إلى البيت الفلسطيني بالذات وعبّر عن نفسه بالتحوّلات المتدرّجة في خطاب منظمة التحرير الفلسطينية وحتى في وثائق حركة “حماس” التي تحدثت منذ سنوات عن هدنة طويلة الأمد وصولًا إلى دعوتها الحديثة إلى مفاوضات تُحقّقُ حلّ الدولتين.

ولأنَّ فلسطين قضية الغرب أيضًا، فإنَّ المواقفَ التي تصدُرُ عنه، وعلى نحوٍ لا يشبه المواقف من قضايا أخرى في العالم، تُسبّبُ اندلاعَ صخبٍ وانقساماتٍ وتصدّعاتٍ بين دولِ المنظومة وداخل منظّماتها وفي قلب كل بلدٍ وحزب. وما تشهده الإدارة الأميركية من جدل، وما يشهده الإتحاد الأوروبي من سجال، وما تشهده البرلمانات من مواجهات وانقسامات أمثلة على مفاعيل فلسطين وقضيتها في النقاش العام. وقد سبق لفرنسا، في عهد اليميني شارل ديغول واليساري فرنسوا ميتران، أن اخترقت خشبية غربية في التعاطي مع المسألة الفلسطينية لكن دائمًا من خلال العلاقة الحميمة بين فرنسا وإسرائيل وفي سياق التطوّع-التطفّل لاقتراح مداخل حلّ فلسطيني لمصلحة إسرائيل.

ومَن يُراقبُ مواقف الصين وروسيا يلاحظ أنَّ سلوكَ بكين وموسكو أيضًا يتعامل مع قضية فلسطين من زاوية أنها قضية غربية لا تملك الدولتان هامشًا للفعل داخلها، لا بل إنَّ قضية فلسطين هي مناسبة لمُناكفة واشنطن والغرب وليست في متن سياستهما الخارجية. ومَن يُراقبُ مواقف دول العالم التي اعتمدت في 27 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بإجماعٍ كاد يكون شاملًا القرار العربي في الجمعية العامة للأمم المتحدة (صوّتت لصالح القرار 120 دولة ورفضته 14 وامتنعت عن التصويت 45)، يستنتجُ أنَّ العواصم تتوجّه في القرار المُطالِب بهدنةٍ إنسانية في غزة إلى الولايات المتحدة والمنظومة الغربية أوّلًا وأخيرًا.

وأن تكونَ قضيةُ فلسطين قضيةً غربية وهي “القضية الأولى” هذه الأيام، فهذا يفسّر المسارات التي تنتهجها الدول العربية منذ بداية الحرب الحالية لدعم فلسطين وإنقاذ غزة والمطالبة بوقف إطلاق النار والسعيّ إلى التسوية الشاملة. ووفق هذا المنظار تتدخّل نصوصٌ مُتراصّة من المصالح والأمزجة والخرائط الدولية والإقليمية الواجب وضعها في الحسبان في مخاطبة الغرب قبل مخاطبة إسرائيل.

وعلى الرُغم من تاريخ وتجارب من التماس العربي-الغربي بشأن فلسطين وقضيتها، نكتشفُ جميعًا أنَّ البَونَ ما زالَ شاسعًا بين قراءة العرب للمسألة الفلسطينية في بُعدِها الإنساني الحقوقي السياسي وقراءة الغرب الذي لا ينظرُ إلى “القضية” إلّا من منظارٍ مختلف. وإذا ما رأى الغرب في حدث أوكرانيا احتلالًا روسيًا بغيضًا، فإنه يقرأ فلسطين وقضيتها من قاموسٍ آخر لا يتعلّق بالموقف من ملفٍ شرق أوسطي بل من مسألةٍ غربية بامتياز. لاحظ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قبل أيام تلك القراءة فقال: “علينا أن نعترفَ بأنَّ لا أحدَ يداه نظيفتان مما يحدث، وإننا جميعًا متواطئون إلى حدٍّ ما”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى