معضلة ديون بكين: لماذا تُعتَبر فقّاعة الصين تهديداً للإقتصاد العالمي

على الرغم من الصورة الإيجابية التي تُعطى عن الإقتصاد الصيني فإنه يبدو أنه يواجه معضلة ديون قد تؤدي إلى إنهياره الأمر الذي يهدد معه الإقتصاد العالمي كما يشرح الخبير الإقتصادي المالي إدواردو كامبانيلا.

بنك الشعب الصيني: ضخ الأموال فضخم ديون الشركات.

بقلم إدواردو كامبانيلا*

لا تزال ديون الشركات المُتَضَخِّمة في الصين تشكّل الخطر النظامي رقم واحد على الإنتعاش الإقتصادي العالمي. وإذا إنفجرت الفقّاعة فستصل تداعياتها إلى بقية العالم فيما يحاول الرئيس الصيني المُساوِم شي جين بينغ توسيع قبضته على السلطة قبل إنعقاد مؤتمر الحزب الشيوعى الصيني فى أواخر العام الحالي. وتُدرك بكين أن الديون لم يعد بالإمكان تحمّلها بشكل مُستدام، لذا فقد أقدمت قبل عامين على تصميم إستراتيجية إقتصادية كلية متطورة لزيادة أسعار المصانع بشكل مُصطَنَع وزيادة الأرباح وتسهيل سداد القروض للشركات الأكثر إضطراباً وتعثّراً. ولكن كما قال الإقتصادي جورج ماغنوس، “لا يُمكنك حلّ مشكلة ديون سلمياً”.
ويقترب مجموع ديون الشركات الصينية من مستويات خطيرة بالنسبة إلى المعايير التاريخية وعبر البلدان على حد سواء. وفي بلوغه حوالى 170 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، فإن مُعدّل ديون الشركات فى الصين يُعتبَر الأعلى فى العالم. وعلاوة على ذلك، فإن ما يُسمّى بالفجوة الإئتمانية، التي تقيس مدى سرعة نمو الإئتمان بالنسبة إلى الإقتصاد، تبلغ حالياً 30 في المئة – وهي أعلى بكثير من عتبة ال8 في المئة التي كانت في الأزمات السابقة تشير إلى إنهيار وشيك. لذا، ليس من المستغرب أن وكالة التصنيف الدولية “موديز” قد خفّضت الصين أخيراً إلى “A1” من “Aa3” للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً. وقالت الصحيفة التابعة للحكومة رداً على ذلك: “غالباً ما تنظر وكالات التصنيف الغربية إلى الصين من خلال تيليسكوب”. في نظر البيروقراطيين الصينيين، فإن دَيناً مُموَّلٌ محلياً، ونسبة مُدَّخرات عالية، ومالية عامة صحّية يجب أن تكون كافية لدرء وصدّ المخاطر المالية.
لكن المشكلة إزدادت تفاقُماً بسبب أن ثلاثة أرباع ديون الشركات الصينية تنتمي إلى الشركات المملوكة للدولة غير الفعّالة للغاية في الصناعات التقليدية. وفي منتصف العام 2015، عندما كان القطاع الصناعي بالكاد ينمو وأسعار المنتجين آخذة في الإنخفاض، وبالتالي مؤثّراّ في الأرباح، فإن المُصنِّعين الصينيين كافحوا للبقاء واقفين على أقدامهم ودفع مبالغ من جبال ديون الشركات. ولتعزيز الأرباح وتفادي الإفلاس، فإنها كانت تحتاج إلى أسعار أعلى، والتي قدّمتها الحكومة في نهاية المطاف على “طريقة بكين” من خلال مزيج من إصلاحات جانب العرض (خفض الحواجز بين الناس والإنتاج) وسياسات إدارة الطلب (إئتمان منخفض جداً).

مزيج خطر

لا علاقة لإصلاحات جانب العرض التي أقدم عليها لرئيس شي بالإصلاحات الموالية للسوق التي نفّذها الرئيس الأميركي رونالد ريغان في ثمانينات القرن الفائت، عندما ظهرت إقتصاديات جانب العرض للمرة الأولى، والتي ما لبثت أن فشلت بعد ذلك بوقت قصير. وبدلاً من زيادة المعروض من السلع والخدمات والسماح للسوق بتخصيص الموارد بكفاءة، كما حاول ريغان القيام به، فإن الحكومة الصينية قد قلّصت ببساطة الإنتاج في قطاعات مثل الفحم والصلب والحديد. لكنها أغلقت عدداً قليلاً جداً من الشركات غير المنتجة والمصابة ب”غيبوبة”. وكان الهدف هو إخراج الإمدادات المُنخفضة الجودة، وترك اللاعبين المُتبَقّين يتمتعون بزيادة في قوة التسعير.
وقد أدّت هذه السياسات في معظمها إلى إستقرار الإنتاج بدلاً من خفضه إلى حد كبير لصالح الشركات الأكثر كفاءة، ولكنها كانت فعّالة بما فيه الكفاية لدعم الأسعار وتجنب دوّامة الإنكماش. وكانت عملية التكيّف والتصحيح بطيئة حيث كافحت حكومات الأقاليم للعثور على أموال لنقل الموظفين وتعويضهم وإعادة تدريبهم وتوظيفهم. ومع بلوغ عدد الشركات المملوكة للدولة حوالي 155,000 شركة وسيطرتها على شبكات قطاعات تجارة التجزئة، والبناء، وتجارة الجملة، فإن أي تحسن كبير سيستغرق وقتاً طويلاً. وليست لدى بكين مصلحة لتسريع العملية. إن التخلص من الشركات المملوكة للدولة غير الفعّالة من شأنه أن يؤدي إلى خسائر كبيرة في الوظائف، مما يولّد توترات إجتماعية وسياسية هائلة.
وعلى جانب الطلب، مع اللاعبين القُدامى (الشركات المملوكة للدولة) والإقتصاد القديم (الصناعة الثقيلة) فى ورطة، فقد إختارت بكين أداة قديمة (نمو الإئتمان) لإنقاذهما. على مدى العامين الماضيين، ضخ بنك الشعب الصيني قدراً كبيراً من السيولة في الإقتصاد، حيث نما الإئتمان نحو 13 في المئة سنوياً. وأدّى ذلك إلى إزدهار قطاع الإسكان الذي أدى بدوره إلى زيادة الطلب على السلع الأساسية ومواد ومعدّات البناء – وهي قطاعات تهيمن عليها جهات فاعلة تسيطر عليها الدولة. وطبقاً لصندوق النقد الدولي فان الأمر قد يستغرق أكثر من ثلاث سنوات لإنهاء مخزون الإسكان فى المدن الصغيرة فى الصين حتى فى غياب البناء السكني الجديد.
بالإضافة إلى ذلك، أدى إصدار حكومات الأقاليم والمناطق سندات حكومية في العام 2015، وأخيراً زيادة السندات الخاصة لدعم مشاريع البنية التحتية، إلى توسيع سوق السندات، التي وفّرت شريان حياة جديداً للكيانات الخاضعة لسيطرة الدولة. وعلى الرغم من أن أنواع الإصدار الرئيسية الثلاثة (الحكومة والمؤسسات المالية وقطاع الشركات غير المالية) تمثّل حصصاً متساوية تقريباً في سوق السندات، فإن معظم الجهات المُصدِرة لها صلة بالحكومة. وتُعتبر البنوك أكبر مُصدِري السندات المالية، في حين أن الشركات المملوكة للدولة، إلى جانب أدوات الإستثمار الحكومية المحلية، هي أكبر الشركات المُصدِرة لسندات الشركات غير المالية.
ونتيجة لهذا الموقف التدخّلي الشديد، إستعادت الدولة دورها القيادي في الإقتصاد من خلال تنظيم وتنسيق نشاط البنوك والشركات التي تسيطر عليها مباشرة. وظلت حصة الإستثمار في القطاع العام تنخفض بإستمرار من العام 2004 إلى منتصف العام 2015، عندما كانت لأول مرة تتطابق مع حصة القطاع الخاص. غير أن حصة القطاع العام زادت على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية مرة أخرى إلى 39 في المئة، وهي حصة أكبر من حصة القطاع الخاص. وهذه نكسة واضحة لإقتصاد يحاول التحرّك نحو نظام أكثر إعتماداً على السوق.
ما يقرب من عامين من هندسة الاقتصاد الكلي تُظهر آثاراً. وكما هو الحال في كتاب الإقتصاد المدرسي النموذجي، فقد أدّى الجمع بين العرض المُكَثَّف والطلب المُوسَّع إلى إرتفاع أسعار المصانع، التي قفزت في بداية العام 2017 من الأحمر، وتنمو الآن بأكثر من عشرة في المئة على أساس سنوي . وفي الصناعات الأولية، فإن إرتفاع أسعار المصانع يعزّز أرباح الشركات المملوكة للدولة. وهي تتضاعف تقريباً على أساس شهري بعدما إنخفضت لمدة سنتين. وقد أدّت هذه الضغوط التضخمية إلى تسهيل تسديد الديون ولكن أيضاً إنخفضت قيمتها من حيث القيمة الحقيقية بنحو 3 في المئة.

المعضلة

هنا هي المعضلة للسلطات الصينية: إذا إستمرت مع هذا المزيج من السياسات، فإنها قد تُبقي على إرتفاع الأرباح مؤقتاً. ولكن إرتفاع أسعار المصانع سوف يُترجَم في مرحلة ما إلى إرتفاع في التضخم بالنسبة إلى المستهلكين الذي يمكن أن يخرج بسرعة عن نطاق السيطرة. وفي الوقت عينه، سيؤدي إنقاذ الشركات المملوكة للدولة المتدهورة إلى تأخير عملية التنظيف التي تشتد الحاجة إليها في النظام الصناعي، مع إبقاء العديد من الشركات ذات الإمكانات العالية خارج السوق. وفي نهاية المطاف، فإن مشكلة الديون سوف تتحقق وتتجسّد مرة أخرى بطريقة أكثر شراسة حيث تصيب بقية العالم.
مع ذلك، من دون تدخل الحكومة، فإن شركات كثيرة سوف تكافح لخلق وتوليد ما يكفي من الأرباح للبقاء على قيد الحياة. وإفلاسها سيؤدي إلى زعزعة الإستقرار المالي والإجتماعي والسياسي أيضاً. وسيدفع الوضع المتردي بالعمال للنزول إلى الشوارع، وسُتفلِس البنوك، وسيكافح الحزب الشيوعي للحفاظ على قبضته على البلاد. وستكون هناك فوضى عالمية للأسهم لا مفرّ منها، مدمّرةً أكثر بكثير مما كان عليه الحال في بداية العام 2016.
وبالتالي، يتعيّن على بكين أن تؤدي عملاً مُعقّداً لتحقيق التوازن: زيادة نمو الإئتمان مع دعم الشركات الأكثر كفاءة فقط. إن التشديد الأخير على نظام الظل المصرفي في الصين هو مجرد خطوة صغيرة في الإتجاه الصحيح. لقد أدخل بنك الشعب الصيني أخيراً قواعد تحدّ من العمليات خارج الموازنة العمومية التي عادة ما تكون خارجة عن سيطرة البنك المركزي وتُوجَّه نحو إستثمارات محفوفة بالمخاطر، كما كان الحال مع نظام الظل المصرفي في الولايات المتحدة قبل أزمة الديون الفرعية. وكما ذكر صندوق النقد الدولي، فإن عمليات شطب الديون، إلى جانب إعادة رسملة البنوك التي أضعفتها القروض المُتعثّرة من الشركات المملوكة للدولة الفاشلة فقط ستسمح للنظام المالي إعادة توجيه الإقراض إلى قطاعات أكثر ربحية.
علاوة على ذلك، يجب على بكين، بدلاً من الحدّ من الإنتاج، أن تعتمد إصلاحات مناسبة بالنسبة إلى جانب العرض لإطلاق الإمكانات غير المُعلنة وغير الظاهرة بالنسبة إلى المشاريع لدى العديد من المُنتجين الطموحين، في حين أن الشركات المملوكة للدولة الأقل كفاءة تُقفل أبوابها إنتقائياً وتدريجاً. إن الخسائر القصيرة الأجل جرّاء تخفيضات الانتاج والعمالة – التي يمكن إحتواؤها وتخفيفها بشيء من أشكال التأمين ضد البطالة – يُمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى نمو أعلى وأكثر إستدامة.
للأسف، لن يحدث سوى القليل من هذا قبل أن يجتمع الحزب الشيوعي في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. وفي هذه الأثناء، ستواصل بكين تضخيم ديونها مُقامِرة بنفسها ومُهدّدة إقتصادها وإقتصاد العالم أجمع.

• إدواردو كامبانيلا خبير إقتصادي في الصناعة المالية وحائز على جائزة براكن بور 2015، التي تمنحها صحيفة فايننشال تايمز وشركة ماكنزي.
• كُتِب الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى