وفاةُ الجنرال غورو مُتأثِّراً بإعلانِه
بقلم سجعان قزي*
نخجَلُ نحن اللبنانيين من تاريخِنا فيما هو يخجَل منا. نخجَل من أن يُسجِّل َكتابُ التاريخ أنّـنا تقاتَلنا ولا نخجَل من التقاتل. نخجَل من أن يَذكرَ كتابُ التاريخ أنَّـنا عملاءُ ولا نخجَل من العمالة. نخجَل من أن يَـلحظَ كتابُ التاريخِ أنّـنا فاسدون ولا نخجَل من الفساد. نخجَل من أن يُدوّنَ كتابُ التاريخِ أنّـنا قليلو الوطنـيّـة ولا نخجَل من الولاءِ للخارج. نخجَل من دورِ بعضِ رجالاتِنا التاريخـيّين فيما هم يَخجَلون مـنّـا. يعني أنّـنا نَرتضي الأعمالَ الشنيعةَ ونخشى الفضيحةَ فقط، وهذا دَأبُ المُرائين.
الحقيقةُ أنَّ الخلافَ على التاريخِ هو خلافٌ على لبنان بكلِّ مراحلِه الماضيةِ والحاضرةِ والمستقبلـيّـة. والخلافُ على لبنان هو تنافسٌ على الوصايةِ عليه. وسيزدادُ هذا التنافسُ ما دُمنا في نظامٍ طائفيٍّ حيثُ تسعى كلُّ طائفةٍ إلى أن تكونَ الأولى. نعيش مرحلةَ إنتزاعِ مِـلْـكــيّـةٍ لتغييرِ الهندسةِ التراثـيّـةِ الميثاقـيّـة. فكلّ التعديلاتِ الدستوريّـةِ التي جرت صَـبَّت في خانةِ الوصايةِ لا في خانةِ الشراكة؛ إذ لا قيمةَ لــ”الشراكةِ اللبنانـيّـة”، بمفهومِها الحضاريِّ، خارجَ خصوصيّـةِ هوِيّـةِ لبنان وقيمِه. بعضُـنا يَـظنُّ أن دولةَ لبنان الكبير هي إعلانُ حدودٍ دولـيّـةٍ لمساحةٍ جغرافـيّـةٍ في حين أنّـها ولادةُ حدودِ الحريّـةِ لشعبٍ. وبالتالي، لا يُجدي التغـنّـي بوِحدةِ لبنان وتقديسُها بمنأى عن هذه الفكرةِ العظيمة. لبنانُ اليومَ هو نقيضُ مبرِّرِ تأسيسِه. يحيا على وَهْمِ إيجابياتٍ سطحـيّـةٍ وفارغة. لبنانُ الحاليّ تَنازل عن هوِيَّــتِـه الكيانـيّـةِ لهوِيَّــاتٍ ـــ مُلصَقاتٍ «autocollantes».
وكلّما إعتقدنا، تحت تأثيرِ حرارةِ علاقاتِنا الإجتماعـيّـة، وهي حـقّـاً رائعةٌ، أننا تَخطّــيـنا خلافاتِـنا الطائفـيّـةَ والمذهبيّـةَ والقومـيّـة، نُفاجأ بأنّـنا لا نزالُ في عِـزِّ الصراعِ على الخِلافةِ والإمارةِ والجُمهوريّــة. لم نَخرج من العهدِ القديم، من يسوعِ ذي الطبيعةِ الواحدةِ أو الطبيعتين، من عليٍّ ومعاوية ومن يزيدٍ والحسين، من القوميّاتِ البائدةِ والأنسابِ المجازيّـة. والطريفُ أنَّ لا اللهَ ولا القدّيسينَ ولا الأنبياءَ ولا الرسلَ طلبوا منا نُـصرتَـهم على إختلافٍ بل اتِّــباعَهم على وفاق.
لسنا الشعبَ الوحيدَ الذي إختلف على ماضيه. نحن من أصولٍ متعدِّدة. كلُّ الشعوبِ إختلَفت وتقاتلت. أين نحن من حروبِ أوروبا وأميركا وآسيا؟ لكنَّ تلك الشعوبَ قَـبِلت تاريخَها المختلِف وتصالحت وإنطلقت نحو مستقبلٍ مُشرِق. أما نحن، فلا نزال نَجتَـرُّ خلافاتِنا، لا بل، كلاعبِي القِمار، نَستقرِض خلافاتٍ من الآخرين بفائدةٍ مرتفعِة. هذا إمعانٌ في هدمِ الذاتِ، وكأننا نَنتقم من قَدرِنا كشخصيّاتِ الكاتبِ الألمانيِّ الفريد دوبلن التي تَـهرُب من خطاياها بإرتكابِ خطايا أخرى.
كلّما عاينّا تطوّرَ وجودِنا، نكتشف أنّـنا نهوى تعميقَ خِلافاتِنا عوضَ حَصرِها. وإذ نُخفي ذلك وراءَ اليومـيّـاتِ، فالأزَماتُ البُنيويّـةُ والدستوريّـةُ والحضاريّـةُ تَـفضَحُها سريعاً. ما يَجمعنا، نحن اللبنانيّين، هو ما يَجمع أيَّ إنسانٍ بإنسانٍ آخَر من أوطانٍ مختلِفة، وليس ما يَجمعُ مواطنين مع مواطنين آخَرين من وطنٍ واحِدٍ ليؤلِّـفوا شعباً واحداً.
لو كنا شعباً واحداً لنجحْنا في بناءِ دولة، أو نَمطِ حياةٍ متكامِلٍ على الأقل. كيف لنا أنْ نبنيَ وطناً واحداً في غيابِ الإرادةِ الوطنـيّـة؟ نحن شركاءُ في التمنـيّـاتِ الوطنـيّـةِ المُعَسَّلَةِ لا في الإرادةِ الوطنـيّـةِ الصادقة. كيف لنا أنْ نبنيَ وطناً واحِداً ونحن مُنقسمون حولَ المناهِجِ التربويّـةِ والسياسةِ الخارجـيّـةِ والإستراتيجـيّـةِ الدفاعـيّـة؟ كيف لنا أنْ نبنيَ وطناً واحِداً وكلُّ فريقٍ مُـخـيِّـمٌ في دولةٍ أخرى يَخدُمها برموشِ العيون؟ أنتصَوّرُ ما كان ليَحُلَّ بدولةِ سويسرا المؤلَّــفةِ من أربعةِ مكونّـاتٍ رئيسةٍ لو أن ولاءَ السويسريّين الناطقين بالفرنسيّـةِ لفرنسا وولاءَ الناطقين بالألمانـيّـةِ لألمانيا وولاءَ الناطقين بالإيطالـيّـةِ والرومانشيّـةِ لإيطاليا؟
منذُ ثلاثةِ آلافِ سنةٍ لم يَنجح سكّـانُ هذه الأرضِ اللبنانـيّـةِ في توحيدِ بلادِهم مركزيّـاً فعاشوا في ظِلِّ مدائنَ وإماراتٍ منتشِرةٍ بين أوغاريت شمالاً وصور جنوباً، وفي الجبل الكبيرِ لاحقاً. إنْ دلَّ هذا الواقعُ التاريخيُّ على شيءٍ فعلى النزعةِ الاستقلالـيّـةِ الذاتـيّـةِ لدى هذه الأقوامِ، وعلى إشكالـيّـةِ الوِحدةِ المركزيّـةِ مقارَنةً بالعيشِ في ممالكَ مستقلّةٍ أو إماراتٍ متفرِّقةٍ. الوِحدةُ مُـكلِفةٌ. وأساساً إنَّ دولةَ لبنانَ الكبيرِ هي أوّلُ تجربةٍ وِحدويّةٍ مركزيّةٍ مستقلّةٍ تَجمع جماعاتٍ متعدِّدةَ المشارِبِ على الأرضِ اللبنانـيّـةِ بمداها الجغرافيِّ كما وردت في الكتبِ المقدَّسةِ (من مدائن فينيقيا حتى جبال حرمون). وعوضَ أنْ نستفيدَ من هذه التجربةِ لنُسقِطَ نظريّـةَ لبنانَ المدائنِ والإمارات، فعلنا كلَّ شيءٍ لنؤكّدَها ونُحوِّلَ أسمى صيغةِ تعايشٍ كابوساً على كلِّ أجيالِ لبنانَ منذ مئةِ سنةٍ حتى هذه اللحظة.
منذُ تأسيسِه، لم يُبّدِ لبنانُ علاماتِ وَهَنٍ وعَجزٍ مثلما يُبديها اليوم. يُسيطر على المجتمعِ ضَياعٌ وُجوديٌّ وعلى الناسِ سأمٌ وطنيٌّ. فرغم الإستقرارِ النسبيِّ والإختلاطِ الإنسانيِّ والإنفتاحِ بين المناطق، نَشعر بحَصْرٍ نفسيٍّ حيالَ المصير وبِتوجُّسٍ من شيءٍ ما يُـحضَّر للبنانَ ونحن في غُربةٍ عنه. فإذا لم تكن الدولةُ اللبنانـيـّـة على بَــيِّـنةٍ من بيانِ قِـمّةِ الرياض فهل ستكون على بَــيِّـنةٍ من التحوّلاتِ المصيريّـة؟
لم تولَد هذه المشاعرُ فجأةً ومن فراغ. مضى زمنٌ وهي تتراكَمُ، وأسبابُـها عدّة: تعدديّـةُ الولاءِ، تعاقُبُ الأزَماتِ والحروب، فشلُ التسوياتِ والحلول، تعبٌ من إنعاشٍ متواصِلٍ للصيغةِ والشراكة، إتّساعُ الإختلافِ في نَمطِ الحياة، تدنّي مستوى الطبقةِ السياسيّـةِ وصعوبةُ تغييرِها من خلال النظام، بروزُ مشاريعَ إسلاميّـةٍ سلطويّـةٍ منفصِلةٍ عن مشروعِ الدولةِ الميثاقـيّـة، عدمُ التحاقِ المحيطِ العربيِّ بالديموقراطـيّـةِ والمدنـيّـة، التحوّلاتُ المخيفةُ في العالمِ العربيِّ، تراجعُ ثقةِ المسيحيّين بالصيغةِ النَموذجـيّـةِ نتيجةَ خيباتِ الأمل، والعولمةُ التي أَضعَفت الشعورَ بالوطنِ لمصلحةِ الشعورِ بالعالم.
لذا حانَ الوقتُ أن نطرحَ السؤالَ الثقيل: ماذا نَفعلُ بعدُ معاً ؟ لا أطرحُه للحثِّ على طلاق، بل لإحداثِ صدمةٍ في ضميرِ كلِّ مواطنٍ فينتفِضُ على الواقعِ ويُـنقِذُ لبنانَ، لبنانَـنا.
• وزير لبناني سابق.