هل تحمل السنة السياسية الجديدة مُتغيِّرات عميقة في تونس؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

بدأت السنة السياسية الجديدة في تونس في أجواء مُلَبَّدة بتطورات “موبوءة” لم تكن في الحسبان. فمنذ أشهر بدا أن العلاقات بين رأسي السلطة التنفيذية في البلاد رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد ليست على ما يُرام، الأمر الذي دفع بالرئيس قائد السبسي بالعمل على إستبدال الشاهد، برئيس حكومة على ذوق إبنه حافظ قائد السبسي، الذي إستعصى عليه الشاهد وعلى مطالبه، مثلما كان الأمر قبل عامين ونيف عندما ساءت العلاقة بينه وبين رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد.
غير أن الشاهد الذي تعلّم من التجربة، و استمرأ المنصب، واستعدَّ مُبكراً بعد تنصيبه لكل طارئ، وبعد الدور الذي لعبه في وضع ابن الرئيس على رأس الحزب الأول في البلاد على شاكلة أحزاب البلدان غير الديموقراطية، نال كجزاء رئاسة حكومة قِيل وقتها إنها ليست على مقاسه وأنه ليس من حجمها. وسارت معه “حركة النهضة” من دون حماس إرضاءً للوالد وعملاً بالتوافق، وما يتطلبه ذلك من تنازلات مفروض أن تكون مُتبادلة. وبدا اليوم على لسان قيادات نهضوية، أن مسايرة عزل الحبيب الصيد كانت خطأ فادحاً، ما يُفهم منه أن طلبات إبن الرئيس ليست لها نهاية، وأنها ليست دائما مقبولة.
إن تمنيات رئيس الجمهورية بصرف رئيس حكومته الذي لم يعد يلائم ذوق إبنه، إصطدمت بصخرتين، الأولى هي صخرة الشاهد نفسه الذي يبدو أنه استعد مُبكراً للإحتمال، وهو أعرف بتقلبات إبن الرئيس، ومطالبه التي ليست لها نهاية والتي إعتبرها شاذة وغريبة. أما الثانية فجاءت من الحليف التوافقي، ظاهرها الحفاظ على استقرار الحكم، وباطنها الدفع لانفجار نداء تونس (أو ما بقي منه) من الداخل، بعدما بدا من أن الشاهد ليس تلك اللقمة السائغة للبلع، وبعدما حملت كل الجهات سراً أو علانية أسباب الهزيمة في الانتخابات البلدية ومسؤوليتها، لحافظ قائد السبسي لولا طوق النجاة الذي وفره له والده الرئيس.
في هذه الاجواء المتعكرة تدخل سنة سياسية جديدة، تتسم بعلاقة مُنعدمة أو تكاد بين رئيس البلاد ورئيس حكومتها، وتتسم بنهاية وفاق بين حزبي “النهضة” و”نداء تونس” وفقاً لاستنتاج رئيس الجمهورية، وهو في الحقيقة وفاق متواصل ولكن قائم على عكازين إثنين، أحدهما الشاهد الذي اعتمد على كتلة برلمانية تعتبر الثانية حالياً بعد تدحرج كتلة “النداء” إلى مرتبة ثالثة. ويعتبر رئيس الجمهورية أن رفض الغنوشي إقالة الشاهد والانتصار له يُعلن عن الخلاف الذي أعده حافظ، وهو قطع لخيط التوافق، والغنوشي الذي يرغب في بقاء الشاهد في منصبه والإبقاء على الاستقرار الحكومي، يخشى من أن يأتي رئيس الجمهورية برئيس حكومة لا يروق له، ما دام السبسي لا يريد أن يفصح عن مرشحه مكان الشاهد. ولعلّ أخشى ما تخشاه “النهضة” تعيين رجل مثل وزير الداخلية السابق لطفي ابراهم، الذي لا يُخفي مناهضته ل”النهضة” وتعامله مع أعدائها في السعودية والإمارات، والذي تردد كثيراً أن تنحيته من موقعه من طرف الشاهد، إن لم يكن بطلب صريح من قيادات “النهضة”، فلعله إستجابة خفية لها في غمزة من الشاهد للإبقاء عليه في موقعه رغم إرادة الرئيس قائد السبسي. ومما يزيد في هذا الاعتقاد التسريبات الأخيرة، الصادرة عن هيئة الدفاع بشأن اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وهي تسريبات أقل ما يقال فيها أن ردود “النهضة” عليها لم تكن حاسمة أو مقنعة، وأنها حشرتها في ركن ضيق، وهي إن كانت صدرت عن جهات قريبة من الجبهة الشعبية، فإنها وفي هذا الوقت بالذات لم تشهد دفاعاً من الشريك الآخر ل”النهضة” في التوافق، حيث تم تركها أي “النهضة” في الواجهة وحدها، فهل جاء الوقت للعمل بمقولة لنائبة في مجلس النواب “تعري نعري”، ما يعني أن لكل طرف له ما يكشفه إزاء الطرف الآخر، وأن الستر هو سيد الموقف؟ وبعد التسريبات، هل ستتحرك العدالة للتأكيد أو النفي الجدي، وهو ما يمكن أن يذهب إلى بعيد؟ أو ينهي بصورة نهائية ما يتردد أنه إذا أخذ القضاء بصورة جدية الأمر تقطع مع ما كان سائداً ربما لقلة الأدلة، وربما لعدم ضم المعطيات إلى بعضها البعض؟
والبعض من اليائسين من القضاء، يقول إنه إن لم تحسم العدالة الأمر، فإن قناعة شعبية كافية للإدانة أو التبرئة حسب المواقع، وإن عدالة السماء تبقى هي الملجأ.
رسالة لطفي زيتون وهو القيادي في “النهضة” إلى قيادة الحركة، ومواقف منار إسكندراني تحمل صيحة فزع، إذ مفادها أنه لا بديل من التوافق مع رئيس الجمهورية، خصوصاً مع ما يتردد بصورة متناقضة، من أن “الإخوان المسلمين” بمن فيهم “النهضة”، بصدد خسران مواقعهم على الساحة الدولية، مع ما يمكن أن يستتبع ذلك من تداعيات قطرية، فماذا لو رفع الغطاء المتعاطف خارجياً عن “النهضة” أو اعتبر دورها مُنتهياً؟
في هذه الأجواء يبدو الفضاء ملبّداً بالغيوم، ويبدو أن “الشيخ ” الغنوشي لا غنى له عن قائد السبسي على الأقل في هذه المرحلة، و”الشيخ” قائد السبسي يبدو أنه لا غني له عن رئيس “النهضة”، فيما تواصل الحركة الإسلامية في هدوء سياسة التمكين، في انتظار أن تسفر الانتخابات المقبلة بعد حوالي عام عن نتائجها المتوقع أن تكون لفائدتها، بسبب تشتت ما يسمى بأحزاب “الإستنارة”، المصابة بداء الإنقسام والتشرذم داخلياً وخارجياً. ماذا سيكون موقع يوسف الشاهد في كل هذا؟ وهل هو قادر على مسك خيط رابط وناظم بين 51 نائباً ينتمون إليه، من المتوقع أن يزيد عددهم في كتلة تنتسب له رغم كل محاولات النفي، وتجد جذورها يوماً بعد يوم على حساب كتلة “نداء تونس”، الذي يغادره كل يوم فوج جديد، كما لو كانوا يهربون من مركب غارق؟ هل يمكن أن يضحي قائد السبسي بابنه، الشرط الأساسي المطروح لاستعادة حزبه وحدة صفوفه وقدرته على الفعل؟
التصور الأول والسائد أن الشاهد ليس من وزن لا قائد السبسي ولا الغنوشي، ولا يملك دهاء هذا أو ذاك، وهو عبارة عن ظاهرة إعلامية ستعود إلى حجمها الطبيعي متى تفطن رئيس الجمهورية، وعاد إلى حقيقة الأوضاع عبر التغييرات في القمة التي سيدخلها على الحزب الذي أسسه، بمحاولة استعادة شخصياته المرموقة المؤسسة “les ténors” . ولكن هل يبقى ذلك في مجال التمني، وهل تعود النهضة لاستلام الحكم مجدداً بعد الانتخابات المقبلة، ومع من؟ وهل ستتواصل سياسات التمكين التي مارستها زمن الترويكا وبعدها ؟
لا شيء بات يمنع ذلك.

• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى