جوشُوَى رينولدز: هل هذه ريشةٌ أَم كاميرا؟ (1 من 2)

جين ستانهوب كونتيسة هارنغتون

هنري زغيب*

نادرًا ما ينطبق هذا العنوان على رسام مبدع، وهم قلَّة في تاريخ الفن، مثلما ينطبق على الرسَّام الإِنكليزي جوشُوى رينولدز (1723-1792) الذي وسَمَه الناقد التشكيلي الإِنكليزي المعاصر جون راسل (1919-2008) بأَنه “أَفضلُ رسَّام وجوه في أُوروبا خلال القرن الثامن عشر”. ولهذا المستوى قلَّده جورج الثالث (ملك بريطانيا العظمى وإِيرلندا) رتبة فارس سنة 1769.

فماذا عن هذا الرسام الذي أَذهل معاصريه بدقَّة ريشته كأَن لوحته صورة فوتوغرافية بالكاميرا، حتى غدا رائد رسم الوُجُوه؟

الملكة شارلوت زوجة الملك جورج الثالث

موهبة الفن وحذاقة إِدارته

يلفت فيه أَنه كان رسامًا موهوبًا ورجلَ أَعمالٍ ذكيًّا. وهو تفرَّد بإِبداعه في رسم الوجوه إِبَّان القرن الثامن عشر، ثم تعمَّمت هذه التقنية في الأَوساط التشكيلية الإِنكليزية، لكنها بقيَت دونه إِبداعًا.

كثيرة جدًّا، ومن دون أَيِّ تمييز، هي الوجوه التي رسمها في محترفه. وتعيينُه رئيسًا/مؤَسسًا “الأَكاديميا الملَكية للفنون” في لندن، جاء لحذاقته أَيضًا في إِدارة أَعمال الشؤُون الفنية.

قبل الدخول إِلى عالم رينولدز، تجمل الإِضاءة على فن الثقافة البصرية عصرئذٍ. ففي ذاك القرن الثامن عشر، كان طاغيًا ومنتشرًا في إِنكلترا فنُّ رسم الوجوه أَكثرَ من أَيِّ فن تشكيلي سواه. ولم تكن شائعةً بعدُ ظاهرةُ استخلاص ملامح الشخصية والروح والنفسية من خلال رسم الوجه. كان ذلك يتم سطحيًّا بنقْل ملامح الوجه خارجيًّا، خصوصًا عند رسم وجوه معروفة ومكرَّسة في المجتمع يتباهى بها أَصحاب تلك الوجوه ولو لم تُبرز اللوحة نفسيتهم أَو روح شخصيتهم، حتى أَن رسامين غالبًا ما لم يكونوا يوفَّقون حتى في نقْل الملامح الخارجية كما هي، فكان يَصعب تبيان الشخص عند النظر إلى اللوحة. وكان ذلك في القرن الثامن عشر يصُحُّ تقريبًا في رسم المناظر الطبيعية التي لا تتطلَّب الدقة في نقل التفاصيل والملامح كما في رسم تفاصيل الوجه.

إِلى أَن جاء رينولدز، بدقَّته رسامًا خلال فترةٍ كان سائدًا بجمالياهُ فنُّ الرُوكُوكُّو (المرتكز على النور والأَناقة) فأَفاد منه كي يطوِّر بريشته جماليا التفاصيل الدقيقة حتى في أَصغر بقعة من اللوحة.

السيدات الثلاث وسلسلة الزهر

بيئةُ نشْأَته ساعدَتْهُ

كان لنشْأَته أَثــرٌ في بُنْيتِه الفنية. فهو ولد في الجنوب الغربي من إِنكلترا وسْط بيئة مثقَّفة. كان الثالث من أُسرة ذات 11 ولدًا، ما أَتاح له أَن يواصل تقليد أُسرته. كان والده يرغب له أَن يتخصَّص طبيبًا، لكنه لم يعارضه حين لاحظَ لديه ميلًا إِلى الرسم. لذا بدأَ جوشُوَى باكرًا يَدرس الأَدب والفلسفات القديمة، فنشأَ محافظًا على النُظُم والأُصول في المجتمع.

فنيًّا، درس أَربع سنواتٍ في لندن على أَبرز فناني عصره، فأَتقن فن الريشة ومعها فن التسويق الفني. ولم تكن شخصية الفنان في عصره مقدَّرَةً من المجتمع بهالتها الرمنطيقية المتفرِّدة بل كان مجرد وسيلة تنفِّذ طلبات الميسورين في رسم وجوههم. من هنا كان هؤُلاء ينظرون إِلى الرسام على أَنه لديهم أَجير موهوب ينفِّذ طلباتهم. وفيما كان رسامون كثيرون يرَون في تلك النظرة إِليهم إِهانةً وتحقيرًا، لم تكُن تلك النظرة تُزعج رينولدز، بل بقي هادئًا مهذَّبًا دمثًا يلاطف الجالسين أَمامه ليرسمهم (أَيًّا يكن مستواهم الاجتماعي) ويطيع طلباتهم ببسمةٍ وطواعية.

إِيطاليا غيرت حياته

بعدما أَكمل ما يحتاجه من دروس فنية لدى أَساتذته في لندن، تهيَّأَتْ له فرصة القيام بجولة في أُوروبا والدراسة في إِيطاليا ثلاثَ سنوات بين فلورنسا وروما. ونادرًا ما كانت تلك الفرصة متاحة لمعاصريه، فتَمكِّن من صقل موهبته في الدقة التفصيلية عند أَصغر بقعة من اللوحة. وكان فن النهضة الفنية الإِيطالية يتوفر إِمَّا من المجموعات الفنية الخاصة التي لم يكن أَصحابها يحبون التبسُّط بها أَمام المتدرجين الجُدد، وإِما من زيارات يقوم بها هؤُلاء إِلى معالِم أَثرية وتاريخية في روما. هكذا أَمضى رينولدز ثلاث سنوات أَمام روائع الكبار في عصر النهضة، ينسَخها ويتمكَّن بثقةٍ من دراسة مفاصل إِبداعهم. وحين أُتيحت له فرصة الدراسة على بومبايو باتوني (1708-1787) أَهم رسام وجوه في عصره، رفَض الفرصة معتبرًا أَن باتوني لن يزيده علْمًا عمَّا كان هو تعلَّمه.

كانت تجربة روما منعطفًا أَساسيًّا في مسيرة رينولدز، خصوصًا في تحصيله وحده كرسام مستقلّ خارج الدراسة في المحترفات، وشكَّل أُسلوبه الخاص، وأَكثر: نظريته الخاصة في الرسم، وعبَّر لاحقًا أَن الفن القديم ساعده للاعتماد على التناغُم والجمال. وهو عاد من إِيطاليا في حالة صحية سيئة جدًّا كادت تقضي عليه، فغادر روما شبه أَصمّ بسبب البرد الشديد فيها.

الليدي سوزانَّا غيل

سبع لوحات في يوم واحد

بعودته من إيطاليا انصرف إِلى الرسم في سرعة محمومة، فكان يستقبل يوميًا حتى سبعة أَشخاص ليرسمهم، كلٌّ منهم زهاء ساعتين، ما قد يبدو استهتارًا منه في سرعة الرسم بدون التأَني الفني المطلوب. إِنما كان له من موهبته الفذَّة ما يتيح له ذلك بنجاح، فكان يرسم وجه الشخص الذي أَمامه، في مكانه، ثم يُكمل في محترفه رسم بقية الجسم مستعينًا بموديل أَمامه لذلك.

كان رسم الوجه ببدلٍ يتضاعف حين يطلب الشخص رسم جسمه كاملًا بالطُول الطبيعيّ، وهو ما كان لا يتوفر إِلَّا للميسورين القلائل، بينهم أَفراد الأُسرة الملكية وبعض الأَثرياء. وكان البدل يزيد وفْق الطلب، كأَن تضاف إِلى اللوحة اليدان والحليّ وطلبات أُخرى شخصية معينة. وتأْكيدًا لنجاح اللوحة ببدل أَقلّ،كان رينولدز يتأَنى في رسم الوجه، وحين يعود إِلى محترفه، يوكل إِلى مساعديه رسم بقية الجسم.

تفاصيل أخرى عن هذا المبدع العبقري في الجزء الثاني من هذا المقال. 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى