أزمة العقارات في الصين أكبر بكثير من أزمة “إيفيرغراند”!

أزمة العقارات التي أبرزتها أكبر شركة تطوير في الصين، إيفيرغراند”، لن تتوقف عند تصفية هذه الشركة، فهي أزمة أكبر تشمل كل قطاع العقارات الصيني والتي تُهدد بأزمة اقتصادية واجتماعية في كل البلاد. 

شي جين بينغ: نجح في القمع فهل يستطيع حل أزمة العقارات بالتي هي أحسن؟

ماري غالاغير*

في الأسبوع الفائت، قضت محكمة في هونغ كونغ بتصفية أكبر شركة تطوير عقاري مُثقَلة بالديون في العالم، “إيفيرغراند”، (Evergrande) بعد عامين من تخلّف الشركة الصينية عن سداد ديونها في أواخر العام 2021. ورَكّزَ العديدُ من التقارير الإعلامية حول القرار على ما إذا كان الدائنون الأجانب سيَستَرِدّون خسائرهم من “إيفيرغراند”، فيما قالت الحكومة الصينية أصلًا إنها ستُعطي الأولوية لاستكمال المشاريع الحالية للمجموعة، على الرُغمِ من أنها لم توضّح  كيفية حدوث ذلك.

ولكن بعيدًا من مسألة مَن الذي سيحصل على السداد، فإنَّ تصفيةَ “إيفيرغراند” تفتحُ سلسلةً من الأسئلة الأكبر والأكثر عُمقًا حول مستقبل الاقتصاد الصيني، وخصوصًا العلاقات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية والقطاع الخاص والأُسَر.

تصفية “إيفيرغراند” ليست مجرد حادث عابر. إنها جُزءٌ من حملةِ قَمعٍ أكبر ضد القطاع الخاص والتواطؤ الحكومي أطلقها الرئيس شي جين بينغ في بداية فترة ولايته، بدءًا من العام 2013 بحملة مكافحة الفساد، التي أصبحت واحدة من أكثر الحملات أهمية وأطولها استمرارًا في تاريخ جمهورية الصين الشعبية. في المُجمَل، أدّت هذه الحملة القمعية إلى تغييرٍ جذري في العلاقة بين الحزب الشيوعي ومجتمع الأعمال، الأمر الذي أدّى إلى خلقِ حالةٍ عميقة من عدم الثقة والخوف، كما أدّى إلى هروب رؤوس الأموال وتراجع عميق في الثقة. وأعقبت حملة مكافحة الفساد سياساتٌ أخرى حذّرت القطاع الخاص من أنَّ أنماطَ السلوك القديمة لم يعد من الممكن التسامح معها. وسوف يتضمّن “الوضع الطبيعي الجديد” لشي المزيد من الانضباط والرقابة.

توسّعت ثقة شي في قدرة حكومته على تنفيذ هذه الحملة القمعية بشكلٍ كبير في أواخر العام 2020 وأوائل العام 2021، بالتزامن مع إدارة النظام الناجحة لجائحة كوفيد-19 قبل وصولِ مُتَغَيِّر “أوميكرون” المُعدي بشكلٍ لا يُصدَّق. ألقى شي العديد من الخطب والتصريحات في ذلك الوقت حول أهمية “الرخاء المشترك” والحاجة إلى اتخاذِ إجراءاتٍ صارمة ضد “رأس المال غير المُنضَبِط”، في حين أكّدَ أيضًا على كراهيته للتنمية العقارية كاستثمار، والذي تجسّدَ في شعاره المُقتبَس: ” المنازل هي للعيش فيها”. وتعود سياسة “الخطوط الحمراء الثلاثة”، التي كبحت التطوير العقاري المبني على الديون واستهدفت بشكلٍ مباشر شركات مثل “إيفيرغراند” التي كانت تستفيدُ من الاستدانة بشكلٍ هائل، إلى هذه الفترة.

بالإضافة إلى شنِّ الهجوم على قطاع العقارات المُفرِط في الاستدانة، ألغت السلطات الصينية الاكتتاب العام الأولي لشركة “آنت فايننشال” (Ant Financial)، وأجبرت على إعادة إدراج شركة “ديدي” (DIDI) في بورصة نيويورك، وحظّرت الشركات الكبيرة التي تخلق مخاطر نظامية معروفة، مثل “Anbang Insurance” و”HNA”. وفي الوقت نفسه، ألمحَ شي بشكلٍ غامض في خطاباته حول “الرخاء المشترك” إلى أشكالٍ جديدة من الضرائب وإعادة التوزيع حتى تصبح الصين في نهاية المطاف “مجتمعًا على شكل زيتونة” يضمّ طبقةً متوسطة كبيرة وعددًا قليلًا نسبيًا من الأغنياء والفقراء.

ولكن حملات القمع وحدها لا يمكن أن تحل محل الإصلاح البنيوي العميق الذي يحتاج إليه الاقتصاد الصيني بشدّة. إنَّ أيَّ حلٍّ قابلٍ للتطبيق لأزمةِ العقارات والصحة المالية للحكومات المحلية يتطلّبُ أن تتولّى الحكومة المركزية في الصين المزيد من المسؤولية والمزيد من المُساءلة. ويتعيَّن على شي أن يتحوَّلَ من الانضباطِ إلى قبولِ حقيقةٍ مفادها أنَّ هذه المشاكل لا تمتدُّ جذورها فقط إلى السلوك السيِّئ للمسؤولين الفاسدين، أو الرأسماليين الجشعين، أو الأُسَر المُثقلة بالأعباء. كانت كل هذه الجهات الفاعلة تستجيب للحوافز التي أنشأها نموذج التنمية في الصين، والذي أصبح يعتمد بشكل متزايد على تطوير العقارات والأراضي لتحقيق النمو.

لذا، فبينما يتحدّث شي بشكلٍ متكرّر عن التنمية عالية الجودة باعتبارها “الحقيقة الصعبة” لإدارته، فمن غير المرجح أن يتحقّقَ هذا من دون تحوّلٍ جوهري في المسؤولية الأعلى نحو الحكومة المركزية. بعبارةٍ أخرى، لا ينبغي على الحكومات المحلية وأصحاب المشاريع الخاصة فقط تغيير سلوكهم، بل يجب على الحكومة المركزية أيضًا.

نظرًا لحجم الأزمة الحالية –لا يزال أكثر من 1.5 مليون مشترٍ ينتظرون المساكن التي دفعوا ثمنها بالفعل لـ”إيفيرغراند”- فمن المحتمل أن تظل الحكومات المحلية مسؤولة عن العثور على مُطوّرين عقاريين آخرين قادرين على تولّي المشاريع غير المكتملة في مناطقها. لكن الحكومات المحلية نفسها غارقة في الديون لأسبابٍ مرتبطة بالعقارات وغير مُرتبطة. ظلت الحكومات المحلية عالقة في الجنون نفسه من التطوير العقاري ومبيعات الأراضي لسنوات. لكنها تُعاني أيضًا من الديون المتعلقة بإدارة وفحوصات كوفيد-19، وكذلك من الهيكل الأساسي لعلاقاتها المالية مع الحكومة المركزية، مما يترك لها العديد من التفويضات لتمويل الضمان الاجتماعي والسلع العامة مثل التعليم، ولكن بدون موارد كافية للقيام بذلك.

ويُشَكّلُ هذا الخلل المالي أحد الأسباب الرئيسة التي جعلت الحكومات المحلية تعتمد بشكلٍ كبير على المضاربة على الأراضي والتطوير العقاري في المقام الأول، لأنه في فترةٍ شهدت ارتفاع أسعار العقارات بشكلٍ مستمر، وفَّرت الإيرادات التي كانت في أمس الحاجة إليها. وكانت أيضًا، وليس من قبيل المصادفة، آلية ممتازة للمسؤولين المحليين للتواطؤ مع مطوِّري العقارات ليصبحوا أثرياء شخصيًا. ونتيجةً لهذا فإن الحكومات المحلية متورّطة في المشاكل المتراكمة الناجمة عن الإفراط في الاستثمار والفساد. ولكن أيّ حلٍّ طويل الأمد سوف يتطلب إدخال تغييرات على النظام الضريبي، حتى يصبح لديها القدر الكافي من العائدات الضريبية لتغطية تكاليف القدر غير المتناسب من الحوكمة المُكَلَّفة بها. وسيشمل ذلك بالضرورة فرض ضرائب مباشرة على الأثرياء والممتلكات، وتوجيه المزيد من عائدات الضرائب إلى الحكومات المحلية بدلًا من الحكومة المركزية.

إن مطالبة الحكومات المحلية بإيجاد “مطوّرين قادرين” للاستيلاء على منازل “إيفيرغراند” غير المُكتملة تتجاهل أيضًا كيف أن مشاكل “إيفيرغراند” ليست سوى قمة جبل الجليد من ديون التطوير العقاري. ليس من الواضح حتى مَن هم المطوّرون الذين يتمتعون بالقدرة الكافية على تحمّل عبء إنهاء المنازل التي تم دفع تكاليفها بالفعل ل”إيفيرغراند”، في حين يحاولون أيضًا جني الأموال من مشاريع التطوير الجديدة، نظرًا للإفراط الكبير في البناء في الصين وانخفاض قيمة العقارات. وتشير تقديرات تقرير جديد لصندوق النقد الدولي حول الاقتصاد الصيني إلى أنَّ الطلبَ الأساسي على الإسكان في الصين سوف ينخفض بنسبة 50% على مدى العقد المقبل، حتى على رُغمِ التقارير الإعلامية التي تشير إلى فائض في المعروض الحالي يتجاوز خمسين مليون مسكن.

لا يستطيع قطاع العقارات التعامل مع هذه المشاكل بمفرده، ولكن غالبية الحكومات المحلية ليست في وضعٍ يسمح لها تقديم المساعدة. وسوف يتطلب الحل الفعّال أن تسمح الحكومة المركزية بإعادةِ هيكلةٍ جوهريةٍ للشركات القائمة، وربما عمليات الإنقاذ المباشرة للأُسَر التي لا تزال تحمل العبء حاليًا. ويقدر صندوق النقد الدولي أنَّ مثل هذه التدابير ستتكلف نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن سيتم تعويضها من طريق تجنّب الخسائر الأطول أجلًا.

بالنسبة إلى الأُسَر، فإنَّ تفكّكَ القطاع العقاري يؤثّر في جيوبها بشكلٍ مباشر. وبسبب نموذج التنمية ما قبل البيع في الصين، فقد دفعت الأسر بالفعل ثمن العقارات الموعودة، لذا لا يمكن أن نتوقع منها أن تدفع أكثر، وخصوصًا عندما تنخفض قيمة هذه العقارات المستقبلية. ومن ناحية أخرى، تشكل الاستثمارات في العقارات القائمة المصدر الأكثر أهمية لثروة سكان الحضر في الصين، حيث تمثل نحو 70% من ثروة الأُسَر. وعلى هذا فإنَّ الانكماشَ في قطاع العقارات، رُغمَ كونه ضروريًا، من شأنه أن يجعلَ العديدَ من الصينيين أكثر فقرًا. كما ساءت فُرَص العمل، حيث لم يؤثر انحدار العقارات في قطاع البناء فحسب، بل في كلِّ شيءٍ آخر مرتبط بالملكية، من تنسيق الحدائق إلى التصميم الداخلي.

كل هذه التأثيرات سوف تؤدّي إلى تفاقم مشكلة ثقة المستهلك، وهو ما من شأنه أن يحثَّ الأسر على الادّخار بدلًا من الإنفاق، وهو هيكل الحوافز الذي تَعزَّزَ أصلًا بفِعل شبكة الأمان الاجتماعي الضعيفة في الصين. وهذا بدوره يعني أن الصين سوف تضطر إلى التطلع إلى الأسواق الخارجية لاستيعاب الطاقة الفائضة في كل شيء من مواد البناء إلى السيارات الكهربائية، ما يؤدي إلى تفاقم الاختلالات التي تعمل على تعقيد علاقات الصين مع الشركاء التجاريين. ومرة أخرى فإنَّ أيَّ سياسة فعّالة لمعالجة مشكلة ثقة المستهلك سوف تتطلّب على نحوٍ مُماثل المزيد من الدعم من قِبَل الحكومة المركزية وإدخال تحسينات على دولة الرفاهة الاجتماعية الضحلة التي تعاني من نقص التمويل.

لا يزال خطر حدوث اضطرابات اجتماعية مُنخفضًا بسبب قدرة الدولة القوية على قمع الاحتجاجات في الشوارع. ولكن الأُسَر الصينية أظهرت بالفعل طرقًا بارعة للتعبير عن استيائها من خلال التقاعس عن العمل، مثل عدم سداد الرهن العقاري وعدم البحث عن عمل ــ وهي الممارسة المعروفة باسم “الاستلقاء المُسَطّح”. لقد أنجزت بكين الكثير من خلال حملات القمع الدراماتيكية التي شنها شي جين بينغ في سعيه إلى تحويل التنمية في الصين في اتجاه جديد وأكثر استدامة. لكن حملات القمع ليست سوى الخطوة الأولى. ويجب أن يتبعها دعمٌ متزايد للحكومات المحلية من الحكومة المركزية. وحتى الآن، نجح شي  ببراعة باستخدام العصي، وسوف يعتمد الكثير على ما إذا كان يستطيع الآن أن يفعل الشيء نفسه مع الجَزَر.

  • ماري غالاغير هي أستاذة إيمي وألان لوينشتاين للديموقراطية وإرساء الديموقراطية وحقوق الإنسان في جامعة ميشيغان، حيث تشغل أيضًا منصب مديرة المعهد الدولي. كانت مديرة مركز كينيث جي ليبرثال وريتشارد إتش روجل للدراسات الصينية من 2008 إلى 2020.
  • كُتِبَ هذا المقال بالانكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى