عالمُ ترامب الجديد يُقلِقُ العالم
كابي طبراني*
يُحفّزُ التقارُبُ المُتزايدُ بين الولايات المتحدة بقيادة الرئيس دونالد ترامب وروسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين بشأنِ الحربِ في أوكرانيا وُجهَتَي نظرٍ مُتعارِضَتَين بينَ صانعي السياسات والمُحلِّلين حول الفوضى العالمية الناشئة وكيفيةِ التعامُلِ معها. وقد برزت هاتان النظرتان بوضوحٍ بين المشاركين في “حوار رايسينا” (Raisina Dialogue)، الذي حضرته “أسواق العرب” افتراضيًا في الأسبوع الفائت، وهو مؤتمرٌ عالمي استضافته مؤسسة “أوبزرفر للأبحاث” في نيودلهي.
أحدُ ردودِ الفعل هو أنَّ تغييرَ موقفِ واشنطن تجاه أوكرانيا يُبرِّرُ استراتيجيةَ التحالفات المُتعدّدة التي تتبنّاها القوى المتوسّطة والإقليمية في “الجنوب العالمي”، بما في ذلك دولٌ كبيرة مثل الهند، وكذلك دولٌ صغيرة مثل الإمارات العربية المتحدة. وقد صرّح أنور قرقاش، مستشار رئيس الإمارات المؤثّر في سياسة بلاده الخارجية، بذلك خلال ظهوره في “حوار رايسينا”. ففي إشارةٍ إلى تراجُعِ ترامب عن سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا تحديدًا، جادلَ قرقاش بأنَّ دولًا مثل دولة الإمارات، وكذلك المملكة العربية السعودية والهند وتركيا وغيرها، كانت على حق في مقاومةِ الانحيازِ من دونِ قيدٍ أو شرط إلى أحد المعسكرَين في الصراع، على الرُغمِ من ضغوط إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن للقيام بذلك.
من المؤكّد أنَّ هذه الدول انتقدت غزو روسيا لأوكرانيا في العام 2022، لكن هذا لم يمنعها من التحدُّثِ إلى موسكو ومُواصَلةِ شراءِ الأسلحة والنفط والغاز منها. من وجهة نظرها، فإنَّ حقيقةَ أنَّ واشنطن قد تراجعت عن سياساتها التقليدية الآن تُثبتُ أنها اتَّخذت القرارَ الصحيح منذ البداية. في الواقع، يُجادلُ زعماءُ هذه الدول بأنه الآن، وبعدما سعت الولايات المتحدة إلى محادثاتٍ مباشرة مع موسكو بشأن الحرب، بالإضافة إلى العلاقات الأميركية-الروسية الأوسع، فليسَ من المُستَغرَب أن تستضيفَ السعودية هذه المفاوضات، بدلًا من الدول “الحليفة” في أوروبا أو شرق آسيا. في نهاية المطاف، قاومت الرياض أيَّ ضغط ٍعليها للانحياز إلى أيِّ طرف، مُستَغِلةً علاقاتها مع كلٍّ من روسيا وأوكرانيا، بالإضافة إلى داعمي كييف الغربيين، لحماية استقلال البلاد. ونتيجةً لذلك، يُنظَرُ إليها الآن على أنها أرضٌ محايدة ووسيطٌ نزيه في المحادثات.
الواقع أنَّ دولًا مثل هذه، في ما يُسمى “الجنوب القوي”، تشعُرُ الآن بأنها على حقٍّ في اعتقادها بأنَّ التحوُّطَ، والسَعيَ إلى الاستقلال الاستراتيجي، ورَفضَ التحالفات الدائمة، والانخراطَ في التعاونِ التبادُلي، هي أفضلُ طريقةٍ لضمانِ مصالحها الوطنية.
يُشيرُ نهجٌ ثانٍ إلى أنه، على عكسِ ذلك، فإنَّ التحوّلَ في السياسة الخارجية الأميركية على نطاقٍ أوسعٍ في عهد ترامب يُبطِلُ التحالفات المُتعدِّدة كاستراتيجية. في حديثه في “مؤتمر رايسينا”، جادلَ وزير الخارجية النروجي، “إسبن بارثي إيدي”، بشكلٍ مُقنِعٍ بأنه لا يُمكنُ لأيِّ دولةٍ أن تكونَ مُتعدّدة التحالفات إلّا في عالمٍ تُوجَدُ فيه أحلاف. لكن ما يحدث الآن يُشيرُ إلى أنَّ الأحلافَ ستُصبحُ قريبًا شيئًا من الماضي.
ووفقًا لهذه الحجّة، يبدو أنَّ إدارة ترامب تعتقدُ حقًا أنَّ النظام الدولي لِما بَعدَ الحرب العالمية الثانية، الذي بنتهُ الولايات المتحدة وقادتهُ منذ العام 1945، لا يخدمُ المصالح الأميركية. فالولايات المتحدة لم تَعُد تَرغَبُ في أن تكونَ القوة المُهَيمنة على هذا النظام فحسب، بل إنها عازمةٌ على تحطيمه وإزالة التحالفات التي جاءت معه. إنَّ ما تريده واشنطن بدلًا من ذلك هو إمبراطورية تسعى إلى التوسُّعِ الإقليمي والعلاقات المُفتَرِسة مع الحلفاءٍ والشركاءٍ السابقين، غير مُقَيَّدة بالقواعد والأعراف والمؤسّسات الدولية. يبدو أنَّ إدارةَ ترامب راضيةٌ عن فكرةٍ أنَّ القوى الكبرى الأخرى، وخصوصًا الصين وروسيا، قد تمتلكُ أيضًا مناطق نفوذها، طالما ظلت الولايات المتحدة الأولى بين القوى الإمبريالية المتساوية.
سواءً أكان النظامُ الدولي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة قد عزّزَ أو أعاقَ المصالح الأميركية، فهذا أمرٌ غير ذي صلة وغير مهم، وكذلك الأمرُ إذا كان السعي وراء الإمبراطورية سيُصبحُ حقيقةً أم سيبقى مجرّدَ طموح. وبقدر ما يعتقد ترامب أنَّ النظامَ السابق لم يُعزّز المصالح الأميركية، فإنَّ ذلك النظام، الذي كان مُهدَّدًا من الخارج أصلًا، من غير المرجَّح أن ينجو من الضربة القاضية التي يوجهها له مُنشِئه وراعيه من الداخل. ونهايةُ ذلك النظام ستعني أيضًا نهاية الأحلاف تمامًا.
وهذا الأمرُ يثيرُ تساؤلًا حول كيفية ردِّ فعلِ الدول الأخرى. وعلى وجه الخصوص، أينَ يَترُكُ هذا “بقية الغرب” وكذلك “بقية العالم”؟ تسعى بقية الغرب جاهدةً لإعادةِ تنظيمِ صفوفها وإعادة تسليح نفسها وتقليل تبعياتها الخطيرة. التحدّي هائل، ماديًا، ولكن الأهم من ذلك كله نفسيًا. أوروبا في طليعة هذا التحدّي، مُحاصَرةً بتهديدِ روسيا وخيانةِ الولايات المتحدة. لكن كندا واليابان وكوريا الجنوبية وأوستراليا والمكسيك وغيرها لن يكون حالها أفضل بكثير. إنَّ مشاركة الكنديين واليابانيين والكوريين الجنوبيين في “تحالفِ الراغبين” الذي يستعدُّ لتأمين وضمانِ أيِّ اتفاقِ سلامٍ مُحتَمَلٍ في أوكرانيا يُشيرُ إلى التأثيرِ المُوَحِّد الذي يُحدثه ترامب على بقية الغرب. ولا شكَّ في أنه إذا تضافرت جهود هذه الدول، فلن تكون بقية الغرب خصمًا سهلًا، لأنها لا تزالُ تضمُّ من بين أغنى دول العالم.
ولكن سيكونُ من الخطَإِ الكبير أن تسعى هذه المجموعة إلى التحرُّكِ منفردة. ينبغي أن يكونَ الهدفُ هو توحيد الجهود مع دول “الجنوب العالمي”، الفقيرة منها والقوية، التي ترى في عالم الإمبراطوريات، حيث “القوة تصنع الحق” قانونًا وحيدًا، تهديدًا. قد لا تكون معايير النظام العالمي المستقبلي التي تطمحُ إليها والتي قد تتفق عليها هذه الدول “معقّدة” وتدخّلية كقواعد النظام الدولي الليبرالي. لكنها ستتمسّك على الأقل بالأساسيات المنصوص عليها في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك عدم الاعتداء، وعدم تغيير الحدود باستخدام القوة، وعدم التوسُّع الإقليمي، واحترام السيادة.
إنَّ بقية العالم، ولا سيما دول “الجنوب العالمي”، مُحِقّة تمامًا في اتهامها للغرب بازدواجية المعايير والنفاق، فضلًا عن ارتكاب أو التواطؤ في انتهاكاتٍ واسعةِ النطاق للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان. لكن حجم المعاناة الإنسانية التي ستُطلِقُ العنانَ لها مع انهيار النظام الدولي الحالي -من غزة وأوكرانيا إلى لبنان وسوريا واليمن والسودان- سيزداد سوءًا إذا ما تفكّكَ تمامًا.
نعم، النظامُ الدولي القديم قد انهار، وربما أصبحَ غيرَ قابلٍ للإصلاح، لكن هذا ليس مُبرِّرًا للتخلّي عنه كليًا. يقعُ على عاتقِ بقية الغرب مسؤولية التعاون مع بقية العالم لإنقاذ ما يستحق الحفاظ عليه وبناء نظام جديد معًا.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani