لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (32): “طائفُ” الطوائف!

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

يَحتَمِلُ “اتفاق الطائف”، تفكيكَ ظروفه ونتائجه، لأنّهُ منذُ البداية أُحيطَ بغموضٍ مُتَعَمَّد، وهو غموضٌ مقصودٌ لسببَين أساسيَين: أولّهما، إخفاءُ غايته الحقيقية. وثانيهما، تطويعه للتلاعُبِ به وعدم تطبيقه كما كان يجب بُغيةَ طَمسِ المعالم بين نَصِّهِ وروحِه.

صحيحٌ أنَّ الذين اجتمعوا في الطائف كانوا لبنانيين، لكن مَنْ هم وراء المؤتمر ورُعاته ليسوا كذلك. إنّهُ صيغةٌ للتدويل بالوكالة، ومن لوازم “التوليفة” أنْ يكونَ الوكيلُ عربيًا ومليئًا.

هناكَ أكثر من حجَّةٍ تجعلُ “اتفاق الطائف” باطلًا من الأساس، لأنَّ المُجتَمِعين لا يقفونَ على أرضٍ صلبةٍ في لبنان، وبالتالي فإنه ليست لديهم القدرة على تنفيذه، ولا شرعية دستورية لهم، فهم نوَّابٌ سابقون مَدَّدوا لأنفسهم عشرين عامًا، وهي فترة طويلة قضى خلالها نحبه عددٌ غير قليل من المُسِنين بينهم. ثم إنه عندما وَصَلَ الاتفاقُ إلى بيروت جرى تزويره من البداية بتعيينِ نوّابٍ في المقاعد الشاغرة من قبل الحكومة، وهو أمرٌ غير دستوري، لأنَّ النائبَ لكي يحملَ هذه الصفة في كل دساتير العالم يجب أن يكونَ مُنتَخَبًا من الشعب في دائرته، ثم جرى تزوير مرة أخرى في قانون الانتخاب تمهيدًا لانتخاباتِ العام 1992 (التي قاطعتها غالبية المسيحيين) بأن رُفِعَ عددُ النواب للمجلس الجديد إلى 128 نائبًا، بينما نصَّ “اتفاق الطائف” على أن يكونَ العددُ 108 نواب فقط.

النقطةُ التي بَدَت إيجابية في الطائف هي استبعادُ أمراءِ الحرب وقادةِ الميلشيات الطائفية منه، وهي نقطة قد تكون سَهَّلت إقرار الاتفاق، لكنها في الوقت ذاته أفسدت تطبيقه على أرض الواقع الذي يُسَيطِرُ عليه أمراءُ الحرب تحت نظر السوريين المُمسِكين بالسلطة الفعلية بتفويضٍ دولي وعربي. ولذلك، فإن ما سُمِّيَ “ميثاق الوفاق الوطني” المُنبَثِق من مؤتمر الطائف، الذي يُطلِقُ عليه بعض اللبنانيين خطأً “دستور الطائف”، يشوبه عيبٌ مبدئيٌّ لكونه تمَّ في عقدٍ برلمانيٍّ غير شرعي، ليس فقط لأنَّ الذين كانوا في المؤتمر مدّدوا لأنفسهم فتراتٍ تشريعية مُتعاقِبة، كما أسلفنا، بل لأنه لا يجوز لنوّابِ الأمّة (ولو كانوا مُنتَحِلي الصِفة) أن يعقدوا جلساتٍ ذات طابع وطني خارج الوطن. وفوق ذلك، أظهَرَ اتفاقُ الطائف بما انتهى إليه، لناحيةِ تَقليصِ صلاحيات رئيس الجمهورية، أنَّ في البلد الذي اسمه لبنان، والمُفتَرَض أنه قائمٌ على الشراكة الوطنية، فريقٌ غالبٌ وفريقٌ مغلوب. وهذا المنطق رفضه المسلمون أنفسهم في ثورة 1958، فطرَحَ صائب سلام وقتها شعار “لا غالب ولا مغلوب”، ثم “لبنان واحد لا لبنانان” بعد تولّيه رئاسة الحكومة سنة 1960 في بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب، وقام سلام بشرح هذا الشعار في محاضرة ألقاها في “الندوة اللبنانية”.

ولنا من الحرب الأهلية الأميركية (1861–1865) التي تزامنت مع الحرب الأهلية اللبنانية الأولى (1860–1864) عبرةً ومثالًا: فقد قال عميد المؤرّخين الأميركيين في ثلاثينيات القرن العشرين تشارلز بيرد (لقب “عميد المؤرخين” أطلقه عليه زميله ومعاصره المؤرخ كومر فان وودوُرد): “إنَّ الإيديولوجيةَ السياسية هي مجرَّد قناعٍ للمصلحة الاقتصادية الذاتية. فالحربُ الأهلية لم تكن صراعًا حول العبيد والعبودية كما هو شائع، بل ثورة أميركية ثانية غايتها نقل السلطة من أيدي كبار المزارعين في الجنوب إلى أيدي الصناعيين في الشمال”.

فإذا أسقطنا هذا الكلام على الحرب الأهلية اللبنانية التي انتهت باتفاق الطائف، بعد 15 سنة من القتل والتهجير والمجازر والدمار والخطف، وتذكَّرنا شعارات “الحركة الوطنية” التي أطلقها كمال جنبلاط، باسم الإصلاح والعدالة الاجتماعية، وما أطلقته المنظمات الفلسطينية المُتحالِفة معها مثل “تحرير فلسطين من النهر الى البحر”، و “الدولة الديموقراطية التي تتسع للمسلمين واليهود والمسيحيين على كامل التراب الفلسطيني” واعتبرناها شعارات إيديولوجية، حسب توصيف تشارلز بيرد، يتبيَّن لنا، أنَّ أقربَها إلى الحقيقة في ذلك الوقت هو الشعار الذي أطلقه القائد الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) والقائل: ” طريق فلسطين تمرُّ من جونية”، فبرَّرَ فيه قول القائلين بأنَّ المقاومةَ الفلسطينيةَ هي جيشُ المسلمين (أو كما قيل تاليًا بأنَّ المقاومة الإسلامية هي جيش الشيعة).

وهذا يُفسِّرُ قول تشارلز بيرد بأنَّ الشعاراتَ الإيديولوجية ما هي إلَّا قناعٌ يخفي عمليةَ انتقالِ السلطة من يدٍ الى يد. وفي الحالة اللبنانية نقل السلطة من المسيحيين إلى المسلمين (أو ربما نقل الصيغة اللبنانية القائمة من مارونية–سنيَّة إلى مارونية–شيعيَّة) وهذا ما تمَّ فعليًا في “اتفاق الطائف” الذي وافقت عليه جهاتٌ مسيحية مرموقة، فبدا ذلك بمثابةِ إقرارٍ وقبولٍ بالهزيمة في الحرب الأهلية. كما ظهرت هيمنة رفيق الحريري بصفته “عرَّاب الطائف” على المَشهَدِ السياسي والاقتصادي في لبنان على أنّها نتيجةٌ حتمية مُسْتَحَقَّة للفريقِ الغالب.

كذلك، فإنَّ الدولَ الراعية لهذا التحوُّل، جعلته حقيقةً واقعةً كي تتصرّف على أساسه، الأصيلِ منها أو الوكيل، سيَّان عندها مَن هي الجهة التي تُمسِكُ بمفاصل السلطة طالما هي قابلة للمساومة مقابل ذلك. وهذا لا يقتصر على السلطة السياسية، بل الأهم من ذلك أنه يتعداها إلى السلطة المالية والمصرفية والاقتصادية، وأوضح مثال على هذا الانتقال في لبنان إصرار رئيس مجلس النواب نبيه بري، بصفته مُمَثّلًا للشيعة، على احتكار وزارة المالية باسم “التوقيع الثالث”، أي توقيع جهة شيعية على القرارات إلى جانب توقيع رئيس الحكومة السنّي ورئيس الجمهورية الماروني، وبالتالي يستطيع وزير المالية التحكّم بجميع الوزارات الأخرى من حيث الموافقة على صرف الاعتمادات لتلك الوزارات أو حجبها عنها. وبذلك يكون وزير المالية أقوى من رئيس الحكومة ومن رئيس الجمهورية.

مثل هذه الأشياء السلطوية الهدف، لا تتحقق كما يشتهي أصحابها، إلّاَ بالتخفّي وراءَ أقنعةٍ إيديولوجية للتخفيف من وطأةِ هذا الانتقال على المغلوبين، حسب توصيف تشارلز بيرد.

في الطائف انتقلت السلطة الفعلية من يدٍ إلى يد، وفي الأزمة المستمرّة منذ “ثورة تشرين” سنة 2019 مخاضٌ آخر لانتقالٍ جديد في السلطة السياسية والاقتصادية كنتيجةٍ حَتميةٍ لملاحق الحرب الأهلية المُستَدامة.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى