“بريكس” المتمدّدة: العَالَمُ يَتَغَيَّر!

محمّد قوّاص*

لا تُشكِّلُ مجموعة “بريكس” التي اختتمت قمتها في جوهانسبورغ، الخميس، تحدّيًا داهمًا للمنظومة الغربية ومجموعة الدول السبع (G7)، لكنها ذاهبة بهذا الاتجاه. ومَن يستمعُ إلى ما صدرَ علنًا عن قادة الدول الخمس: روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا، ومن يتأمّل ما تسرّبَ من مداولاتٍ وما نُشِرَ من بيانات، يسهلُ عليه استنتاجَ إجماعٍ على العزم على تشكيلِ تكتّلٍ دولي موازن وناظم لتحوّلات النظام الدولي المتوخّاة.

ومع ذلك فإنَّ الأمرَ لن يُشَكّلَ إنقلاباً فوريًا أو دراماتيكيًا في القواعد المُترَنِّحة للنظام الدولي الحالي. ليس فقط بسبب عدم ارتقاء “بريكس” إلى مستوى جيوستراتيجي وازن يفرضُ قواعدَ جديدة، بل بسببِ عدم رغبةِ دولٍ أساسية في هذه المجموعة بالتصادم مع الواقع الراهن واستفزاز قواعده. فحسابات روسيا والصين في مواجهتهما للمنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة لا تلتقي أبدًا، وربما تتعارض وتتناقض، مع رؤى وأجندات دول المجموعة الأخرى. ومع ذلك فإن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا يتحدث عن “عائلة بريكس”، وكأنه يوحي بأنَّ الخلافَ يبقى عائليًا.

أظهرت المواقف عشية انعقاد القمّة تحفّظ الهند والبرازيل مثلًا على ما يدفع به الزعيم الصيني شي جين بينغ بدعمٍ من نظيره الروسي فلاديمير بوتين من توسّع للمجموعة لتضمّ دولًا وازنة أخرى. وإذا ما انتهت الاجتماعات إلى حلولٍ توفيقية تعكس توازن القوى داخل المجموعة وبناءً على وثيقة “أدلة استرشادية”، فإنَّ لائحة الدول التي وُجِّهَت إليها دعوةٌ للانضمام تؤكد حقيقة صعوبة تحوّل المجموعة إلى تكتّلٍ عصبوي ضد الغرب عامة والولايات المتحدة بخاصة.

ولئن لا وجودَ لأساسٍ عقائديّ يجمع الدول الخمس الحالية لدول “بريكس”، فإن تأمّلًا لطبيعة الدول التي تمّ “التوافق” على دعوتها، وهي مصر والسعودية والإمارات وإيران وأثيوبيا والأرجنتين، يكشفُ أيضًا أنَّ لا قاسِمَ عقائديًا مُشترَكًا بينها، لا بل إنَّ علاقات بعضها البَينية إشكالية، لا سيما بين مصر وأثيوبيا أو بين إيران والدول العربية مثلًا. والأمر يعني أن مجموعة “بريكس” في مرحلة التوسّع الجديدة التي تبدأ في العام 2024 لن تبتعد كثيرًا من المنطلقات الأولى لإنشائها في العام 2009 ولن تتجاوزَ، حتى الآن، أهدافها الاقتصادية التنموية.

وللدول الجديدة، كما لدول المجموعة حاليًا (عدا روسيا والصين)، علاقاتٌ واسعة مع الولايات المتحدة ومجموعة الدول السبع (G7) واتّخذت، بشكلٍ عام وعلى نحوٍ متفاوت وصعب، مواقف حياد في ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا أو الصراع الغربي مع الصين، لا سيما بشأن تايوان. غير أنَّ هذا الحياد جاء يلبي مصالح تلك الدول بالمفرّق من دون أن يتحوّلَ إلى منظومةٍ شبيهةٍ بـ”حركة عدم الانحياز” التي انبثقت عن مؤتمر باندونغ في العام 1955، والتي، بالنهاية، لم يكن حيادها حقيقيًا بل مائلًا لصالح الاتحاد السوفياتي ومنظومته في العالم.

والواضح أنَّ دول المجموعة بنسختها التي تتمدّد إلى 11 عضوًا تنظرُ بعين داعمة لمسار التخلّص من الدولار ناظمًا للتبادلات الاقتصادية والمالية مُهَيمنًا على اقتصاد العالم. بدت دول، مثل الصين وروسيا، مُتحمّسة لعالم من دون العصا النقدية الأميركية المتدخلة في أنشطتها الاقتصادية والمتحكّمة بطموحاتها التنموية. وبدت دولٌ أخرى متوجّسة ضاق ذرعها من استخدام واشنطن للعملة الأميركية في فرض سياساتٍ وعقوباتٍ تطيح باقتصادات وتربك سيرورتها وتعزلها عن النظام المالي الدولي.

وتكشف تقارير البنك الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي) أنَّ 96 في المئة من التجارة بين أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية تمت بالدولار الأميركي خلال الفترة من العام 1999 و2019، في حين أن الدولار شكّل 74 في المئة من المبادلات التجارية خلال هذه الفترة في قارة آسيا. أما في بقية أنحاء العالم خارج أوروبا، فقد هيمن الدولار على 79 في المئة من حجم المبادلات التجارية. وتؤكد هذه الأرقام وضع الدولار فعليًا كعملةِ العالم.

وعلى هذا فإنَّ بين التمنّي والوصول إلى الواقع بَونٌ شاسعٌ وأمرٌ واقِعٌ تدركه دول المجموعة ولا تُكابر بشأنه. تعرفُ هذه الدول الحيّز الذي يحتله الدولار داخل الاقتصاد العالمي والحاجة إلى عبور مرحلة متدرّجة، قد تكون طويلة الأمد، قبل التخلّص من أحادية قطبية الدولار من جهة، وإدماج ثقافة وتقاليد جديدة من جهة أخرى تقنع حتى الدول المتبرّمة من “الورق الأخضر” بالثقة ببدائل عملات أخرى موثوقة القيمة والأمان.

وإذا ما ترسل مجموعة “بريكس” إشارة عزم واجماع في هذا الصدد، فإنَّ تراجعَ الاعتمادِ على الدولار نسبيًا داخل احتياطات كثيرة من المصارف المركزية، قد يصبح سلوكًا مطردًا إذا ما أظهرت المجموعة جدّية ومثابرة واتفاقًا على تبنّي نظامها النقدي الموازي.

تمثّل مجموعة الدول السبع (G7) تجمّعًا للدول الصناعية الغربية الكبرى. غير أنَّ هذا التكتل يقوم أيضًا على قِيَمٍ عقائدية غربية تدور حول الديموقراطية وحقوق الإنسان، ويقوم على قوةٍ عسكرية مشتركة يمثل حلف شمال الأطلسي واجهتها. بالمقابل، وفي غيابِ منظومةٍ عقائدية واضحة لدول الـ”بريكس”، وفي استحالة اعتمادها على تحالفٍ عسكري على نسق حلف وارسو مثالًا (1955-1991)، فإنه سيكون صعبًا أن تتحوّلَ المجموعة إلى تكتّلٍ جيوستراتيجي يدفعُ إلى اصطفافات الحرب الباردة المُندثِرة. يعرف أعضاء “بريكس” ذلك، ويدرك المراقب لمسار نشأة المجموعة أنَّ أفخاخًا داخلية حاضرة وكامنة وجاهزة لفرط عقدها إذا ما ذهبت دولٌ كبرى داخلها كالصين وروسيا إلى الدفع بهذا الاتجاه.

دعت قمّة جوهانسبورغ ست دول للانضمام إلى “بريكس”. هذه الدول هي جُزءٌ من أكثر من 40 دولة أبدت رغبتها في الانضمام إلى المجموعة. وفي هذا أنَّ العالمَ يتغيّر، وأنَّ ما صدرَ في أفريقيا وآسيا وجنوب أميركا والشرق الأوسط بمناسبة حرب أوكرانيا من مواقف سيادية من “خارج الصندوق”، يكشفُ تخلخلًا في المنظومة الدولية، وتجاوًزا لمسلّماتها واصطفافاتها، وتوقًا باتجاه عالمٍ آخر تعبّر “بريكس” عن بعضٍ من أعراضه.

أمّا عدم دعوة دولٍ أخرى فليس لعدم اتّساقها مع معايير تقنية كتلك التي يفرضها الاتحاد الأوروبي لعضويته، بل عائدٌ إلى صراعِ حساباتٍ لدى الدول الخمس، ويفتح الباب أمام نقاش تلك “الأدلة الاسترشادية” التي تفطّنت القمّة إليها ليس لتشريع أبواب الدخول بل لتبرير بقاء أبواب أخرى مُوصَدة

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى