هل يتّجه العالم نحو نظام حربٍ باردة جديدة؟

الدكتور ناصيف حتّي*

يرى عددٌ كبير من المُراقبين والمسؤولين في كافة أنحاء العالم أن هناك جُملةً من المؤشّراتِ القوية والمُتعدّدة على صعيد العلاقات الدولية التي تدلُّ على أننا نشهد ولادةَ نظام حرب باردة جديدة يُذكّرنا بذلك الذي كان قائماً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط الإتحاد السوفياتي ومعه حلف وارسو. وفي هذا النموذج العائد أو المولود من جديد إحتلّت الصين الشعبية مكان القطب السوفياتي في مواجهة الولايات المتحدة، فيما تراجعت مكانة روسيا الإتحادية، وريثة الإتحاد السوفياتي، وإن لم تفقد ىالطبع دورها الدولي.

من أهم أسباب هذا التحوّل أنّ القوّة الاقتصادية في عصرِ العَولَمة حلّت محل القوّة العسكرية كعنصرٍ أساس في صناعة النفوذ الدولي في عالم اليوم من دون أن تُلغي أو أن تُهمّش كلّياً دور عناصر القوة الأخرى من سياسية وعسكرية وغيرها. صراعُ الحرب الباردة الماضية نظّمها وحكمها العنصران الاستراتيجي والعقائدي اللذان كرّسهما حلفان عسكريان انتهى “الشرقي “منهما كما أشرنا وفقد الآخر الغربي (حلف شمال الأطلسي) بعد فقدان العدو، قوّة الحوافز الضرورية للحفاظ على ديناميته وجهوزيته.

جملةٌ من المؤشرات ظهرت أخيراً تدفع لإلقاء الضوء على العودة إلى الحرب الباردة حسب أصحاب هذا الرأي: من أهمّها ازدياد حدّة المواجهة والتحذيرات المُتبادَلة حول اوكرانيا بين الولايات المتحدة ومعها الدول الاوروبية وازدياد الدعوة لضمّها إلى الإتحاد الأوروبي من جهة، وروسيا التي تندرج أوكرانيا ضمن مجالها الاستراتيجي التاريخي الحيوي من جهة أُخرى. إنها المواجهة حول الإمساك بالحدود الشرقية لأوروبا وتوسيع حدود النفوذ شرقاً في المجال الحيوي الروسي، وردّ موسكو على ما تعتبره محاولات مدّ النفوذ الغربي إلى حدودها.

تسخينٌ سياسي آخر يحصل حول تايوان والتحذيرات الغربية للصين الشعبية من محاولة تغيير الوضع القائم والمُتفاهَم عليه و”قلب الطاولة”، وهو أمرٌ مرفوض. وتتركّز الاستراتيجية الأميركية الحالية على إعطاء الأولويّة لمواجهة الصين الشعبية في “مسرحين استراتيجيين“ أساسيين هما منطقتا المحيطين الهادئ والهندي وذلك عبر بناء تحالفٍ رباعي ناشط يضم إلى جانب الولايات المتحدة كلاً من اليابان والهند وأوستراليا. في المقابل، إن إستراتيجية الصين الشعبية القائمة على عنوان حزام واحد طريق واحد لا تهدف فقط إلى بناء نفوذٍ اقتصادي واسعٍ وقوي على صعيد الجغرافيا الاقتصادية العالمية، بل يواكبه بناءُ وتعزيزُ نفوذٍ سياسي استراتيجي للصين الشعبية على الصعيد العالمي. وفي الشرق الاوسط تبرز الإندفاعة الصينية عبر البوابة الاقتصادية، عاملةً على إقامة علاقات تعاون وشراكة مع قوى إقليمية مُتنافسة أو مُتخاصمة سياسياً. يعكس ذلك طبيعة السياسة الصينية الجديدة. السياسة البعيدة كل البُعد من المواقف “الإيديولوجية” التي يحاول البعض استقدامها من ماضٍ انتهى وإسقاطها على سياسياتٍ صينية مُعيّنة، والشيء ذاته يُمكن أيضاً قوله في ما يتعلق بسياسات روسيا الإتحادية.

هناك تنافسٌ شديد بين الولايات المتحدة والصين الشعبية وحربٌ اقتصادية بينهما ومنافسة حادة في مجالاتٍ مُعيَّنة مثل مجال التكنولوجيا، ولكن هناك مصالح مُترابطة ومُتداخلة بينهما. وللتذكير، يصل حجم التبادل في السلع والخدمات بين البلدين إلى نصف تريليون دولار. إنه مثالٌ ساطع على أننا نعيش في عالمٍ تحكمه لدرجة كبيرة عَولمةٌ جارفة في مجالاتٍ عديدة ولكنها تشهد مقاومةً متزايدة بسبب ما أنتجته، رُغم إيجابياتها الكثيرة، من فروقاتٍ مُتزايدة بين الدول وضمن المجتمعات المختلفة. مقاومةٌ تأخذ أشكالاً وأبعاداً مختلفة منها الدعوة إلى إقامة نُظُمٍ حمائية وطنية، إلى تعزيز المخاوف من الآخر المختلف، وكذلك أفكار الإنغلاق وإقامة الجدران أمام الآخر.

إن القرية الكونية التي نعيش فيها شهدت وتشهد صعود قوى وتراجع أخرى وإقامة تحالفات لم تعد كلية أو مُطلقة وحاملة أو مُرتكزة على عقائد استراتيجية كما كان عالم الأمس منذ عقود. إن تحالفات اليوم صارت ”بالقطعة” أو حسب كل قضية أو مصلحة حيوية وطنية. يزيد ذلك من حجم التفاعل بين ديناميات الجغرافيا الاقتصادية والجغرافيا السياسية في لعبة السياسات الدولية، وكذلك في حجم التفاعل بين سياسات الإندماج العالمي التي تُعبّر عنها العَولمة من جهة والمقاومات المختلفة العناوين والأبعاد لتلك العولمة من جهة أخرى. هذه كلّها عناصر ومعطيات ستحكم وتتحكّم بأيِّ نظام حرب باردة جديدة قد ينشأ ولن يكون شبيهاً ببنيته ودينامياته وأبعاده وأولويّاته بذلك النظام الذي عرفناه في الماضي.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب”– لندن توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”- بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى