عن إِذْنك “خواجة” بيكاسو (3 من 3)

“صبايا أَفينيون” – بداية الخربطة والتشويه والتقبيح

هنري زغيب*

في الجُزءَين الأَول والثاني من هذه الثلاثية عن بيكاسو (1881-1973) كتبْتُ عن مطالع بيكاسو الكلاسيكية وكيف التقى الكاتبة اليهودية الأميركية جرترود شتاين (1874-1946) وغيّرت مساره من الكلاسيكية إِلى التكعيبية.

في هذا الجزء الثالث، أكتب عن علاقته بعشيقته الأُولى وموديله: الرسامة الفرنسية فرناندا أُوليفييه (1881-1966) وانعزاله معها بانسحابه إِلى بلدة غوزول الجبلية النائية العالية المعزولة في أَعلى جبال البيرنييه من الناحية الإسبانية.

“جوزف فونديلّا” مدير النزْل

من هي هذه الفرناندا؟

مولودة إِميلي لانغ سنة 1881 (سنة ولادة بيكاسو كذلك). غيَّرت اسمها كي لا يكتشف مكانَها زوجُها التي كانت طلَّقتْه بسبب مزاجه الفظّ. كانت أَطوَل قامةً من بيكاسو، وذات طبيعة دافئة وحنان جَــمّ. كان هو يسميها “فرناندا الحلوة”. عرفَت كيف تجمع طرفَين: أَيامها معه منذ كان فقيرًا بين أُولئك الفنانين البوهيميين في مونمارتر، وأَيامها معه منذ شاركتْه انتقاله إلى حياة الترف المادي التي بلغ فيها تعلُّقه الخاص بالعطور الغريبة. وما أَزعجها في غوزول لم يكن الصقيع القاسي وسْط تلك المدينة الجبلية العالية في ذاك الصيف الماطر سنة 1906، بل لأَنها حُرمَت من عطرها المفضل “مياه قبرص” كما يظهر من رسائلها إِلى صديقٍ مشترك لها ولبيكاسو: الشاعر غِيُّوم أَبولينير، وسأَلتْه أَن يرسل لها منه قوارير من باريس.

“فرناندا بالوشاح الأَسود”

حقوقها بعد الانفصال

استمرَّت علاقة فرناندا بــبيكاسو من 1904 إِلى 1912. وهي المرأَة الوحيدة التي، حتى بعد انفصالها عنه، ظلَّت تطالبه بحصتها من مبيع اللوحات فترةَ كانت معه، بحجة مشاركتها، جسديًّا، في تلك اللوحات، كموديل وكشريكة. فهي جلسَت طويلًا أَمامه كي يرسم، ووضع لها وحدها نحو 60 لوحة، أَشهرها على الإِطلاق: “فرناندا بالوشاح الأَسود” (1905)، و”صبايا أَفينيون” (1907)، و”وجه فرناندا” (1909). وهي رافقتْه في غوزول فيما يعاني من صعوباته الصحية جرّاء إِصابته بالسفلس. وبين الأسباب الدافعة إِلى الانعزال في غوزول: أَن يعتاد على الحياة بدون الأُفيون الذي كان أَدمنَه في باريس، وربما أيضًا كي يهرب من جائحة التيفوس التي اجتاحت باريس فترتئذٍ. وبمراجعة محفوظات البلدية يتبين أَنْ لم يمُت أَحد بالتيفوس عامئذ. ويبدو من صُوَر بيكاسو في تلك الفترة أَنه كان ذا صحة جيدة. وهو ظلَّ يتعاطى الأُفيون جزئيًّا، غير معتبر أَنه إِدمان، إِلى أَن توفي صديقه الرسام كارل هاينز سنة 1908 فتوقف نهائيًّا عن تعاطي الأُفيون.

معًا في غوزول

كانت الرحلة شاقة (8 ساعات على البغلة لبلوغ قمة البيرينيه)، ومع ذلك تحمّل المشقةَ بيكاسو وعشيقته. وتذكر جيسيكا أَنهما وصلا واستقرَّا في ناحية جميلة يسكنها ناس فقراء يعيشون في القلّة ويكافحون يوميًّا لأَجل لقمة العيش. استأْجرا غرفة في نزْل “كال تامبانادا” (الوحيد في تلك المدينة) يديره جوزف فونديفيلّا، رجل في الثمانين أُعجب به بيكاسو فرسمه وعاد فرسم عنه لوحات كثيرة وظلّ يظهر حتى في لوحاته الأخيرة.. معظم سكان غوزول كانوا من النساء لأَن الرجال كانوا يرحلون وراء اللقمة، منهم التجار المتجولون، ومنهم بياعو الصوف، ومنهم رعاة وفلاحون وبدوٌ رُحَّل، تاركين للنساء الاهتمام بالأَولاد والعُجّز والماشية والبيوت وما يتيسر لهنَّ من عمل في الأَرض وسْط ذلك الجرد العالي. وخدمةً لبيكاسو وفرناندا تجرَّأَت نساء بينهن على الذهاب إِلى الحدود الفرنسية كي يقطفْن لهما باقات من الحشائش والنباتات ذات العطور الخاصة وأزهار التبغ.

“امرأَة تحمل أَرغفة”

بين ناس غوزول

اكتشف بيكاسو في غوزول شكلًا من الأُنوثة مغايرًا كليًّا عما عرفَه في برشلونة ومدريد وباريس. ذاك الشكل كان للحضور الأُنثوي القوي في بيئة غوزول، ما تردّد لاحقًا في لوحاته عن المرأَة القوية. كان سكان غوزول يتكلمون بلكْنة فرنسية كاتالونية. ولعلّ بيكاسو كان يجمع الفرنسية والإِسبانية كي يتأَقلم مع تلك البيئة حتى أَنه، لكثرة انسجامه فيها، اتخذ “پــو دو غوزول” اسمًا مستعارًا ظهر في بعض الوثائق الـمُكتَشَفَة بتوقيعه هذا من تلك الفترة. وكان يرسم حين تُمطر، وفي ساعات الصحو كان يتأَبط دفتره الخاص (بالأَفكار والرسوم) ويخرج إِلى أَماكن يرسم فيها مخططات تمهيدًا لوضعها لاحقًا في لوحات.

كان العاشقان يتناولان الطعام في النزْل، وأَحيانًا يتسلَّيان بلعب الورق. وكان بيكاسو يأْخذ قيلولة هانئة في المراعي، وتعلَّم كيف يحصد القمح، وشاهد السكان يرقصون أَيام الآحاد، وكان يَصحب كلبه كي يلتقي كلابًا أُخرى في المنطقة. وتوطّدت صداقته باثنين: مدير النزْل جوزف فونديفيلّا وامرأَة سماها هو “هيرمينيا”، ظهرَت في بعض لوحاته التي رسمها هناك عامئذٍ (1906) أَبرزها “امرأَة تحمل أَرغفة” (حاليًّا في متحف فيلادلفيا للفنون).

مغادرة غوزول

لا سبب واضحًا لمغادرتهما غوزول بعد 80 يومًا فيها. لكنَّ جيسيكا ترجح أنْ تجمَّعت لبيكاسو أَفكارٌ هناك أَراد أَن ينفَّذها فعاد إلى باريس. وهو تمكن في 80 يومًا من تنفيذ 300 مخطط لـ300 لوحة سيرسمها وفق أُسلوبه الجديد الذي نضج تمامًا في باله خلال تلك العزلة النائية، ما سيكون له صدى في جميع أَعماله اللاحقة بعد غوزول التي أَمَّنَت له خلوة تفكير وإِنتاج، حتى يخرج إِلى ما رآه حداثة في الفن، مبنيةً على ثلاثة عناصر:

  1. مع ظهور الفوتوغرافيا، رأَى بيكاسو أَن الفن ما عاد له – ولا عاد يستطيع – أَن يقلِّد الواقع، بل على العكس: بات على الواقع أَن يقلّد الفن.
  2. تكوين قناعة لديه أَنْ كي تتعلَّمَ عليك أَن تنسى ما تعلَّمْتَه، وكي تبني عليك أَن تهدم.
  3. اكتشافه قوة الرمز في أَشكال فنية جديدة غير مأْلوفة سلفًا للعموم.

وهذه العناصر الثلاثة تشكِّل المعرض الحالي لدى متحف “الملكة صوفيا” في مدريد منذ 16 الشهر الحالي (تشرين الثاني/نوفمبر) ويستمر حتى 7 شباط/فبراير 2024.

الخلاصة:

في خلاصة أَخيرة لهذه الثلاثية: العناصر الثلاثة أَعلاه تكفي لاختصار مسيرة بيكاسو وفهْم انحيازه إِلى أُسلوبه الخاص الذي خرج به من الكلاسيكية باحثًا عن حيّز له في تاريخ الفن. وهو كوَّن ذاك الحيِّز وبات عالَميًّا إِنما بخربطة المأْلوف والإيغال في تشويه الجمال الطبيعي والبشري، وحذف الهارمونيا والجمال في اللوحة أَو التمثال، وفي تقبيح الواقع بــ”موجة” أَو “موضة” مصيرهما الزوال كرغوة الصابون أَو فقاعات الزبد. فالإِبداع ليس في الخروج على الأُصول بل في التجديد من داخلها، والمبدع هو مَن يعرف كيف يستنبط الجديد الموجود أَصلًا في الطبيعة وينتظر من يبلُغه ليجدِّده بجمال هو هو معيار كلِّ حداثة.

لذا كان عنوان هذه الثلاثية: “عن إِذنك خواجة بيكاسو”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى