كيف أثَّرت حربُ غزة في قطاعِ الغاز في شرق المتوسط؟
مع استمرارِ الحرب بين إسرائيل وحركة “حماس” وحلفائها، ستظلُّ حالة عدم اليقين مُخيِّمة بشأن مستقبل صناعة الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط وقدرتها على أن تصبح مصدرًا رئيسًا للأسواق الأوروبية أو الأسواق الأخرى.
كولبي كونيلّي*
تُمثّلُ الحربُ المُستَمِرّة بين إسرائيل وحركة “حماس” في غزة مجموعةً من المخاطر الأمنية الواضحة لعمليات الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وخصوصًا في إسرائيل. الصراعُ لا يفعلُ الكثير لتحسين التوقّعات لمزيدٍ من التكامل لقطاعات الغاز الطبيعي في إسرائيل ومصر وقبرص بهدف التصدير خارج المنطقة، وسوف يزداد هذا المسار سوءًا إذا أصبحت المخاوف من تصعيدٍ كبير في القتال خارج غزة حقيقةً واقعة.
مع ذلك، يبدو التصعيد غير مؤكّد في الوقت الحالي. وفي غضون ذلك، تُشيرُ إشاراتٌ قليلة ظهرت حتى الآن إلى تحوّلٍ أوسع في الديناميكيات الإقليمية التي تؤثر في عمليات قطاع الطاقة إما من زاوية سياسية أو تجارية. إن المخاطرَ الأمنية التي تُهدّدُ أصولَ الغاز البحرية في إسرائيل راسخة؛ ورُغمَ أنَّ الصراعَ أدّى إلى تفاقم نقص الطاقة في مصر، إلّا أنه ليس السبب فيه. بعد مرور أكثر من شهر على الحرب، يبدو على نحو متزايد أن المخاطر الراسخة قد تفاقمت، على الرغم من أنها ظلت إلى حدٍّ كبير بدون تغيير في طبيعتها.
التجارة الإقليمية تواجه مخاطر، ولكن هل يمكن أن تتفاقم الأمور بالفعل؟
كان أبرز مثال على تأثير الصراع في المدى القريب على صناعة الغاز هو الأمر الذي أصدرته وزارة الطاقة الإسرائيلية لمنصّةِ غاز “تمار” التي تديرها شركة “شيفرون” الأميركية بوقف عملياتها، على الرُغمِ من استئنافها منذ ذلك الحين. يحتوي حقل “تمار” على 10 تريليونات قدم مكعبة من الغاز، وهو ثاني أكبر حقل إنتاج في إسرائيل ومصدر رئيس لإمدادات السوق المحلية والصادرات إلى الدول المجاورة. وهو أيضًا نقطة عبور للغاز من أكبر حقل في إسرائيل، وهو حقل ليفياثان (الذي تديره شركة شيفرون أيضًا) والذي تبلغ طاقته 22 تريليون قدم مكعبة، إلى مصر. في حين أن هذا الإجراء لا يخلو من سابقة، إلّا أنَّ الإغلاقَ السابق خلال صراع العام 2021 استمر 11 يومًا فقط ولم يكن له تأثير كبير على العرض الإقليمي.
هذه المرة، كانت التأثيرات أكثر وضوحًا حيث استمرَّ توقّف العمليات لأكثر من شهر. وكانت مصر تستورد الغاز عبر خط أنابيب غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، المعروف أيضًا بخط أنابيب عسقلان-العريش، لكن التدفقات توقفت بعد أن وصلت إلى مستويات قياسية تصل إلى 900 مليون قدم مكعبة يوميًا في وقت سابق من العام. ثم كان على الواردات أن تسلكَ طريقًا جديدًا عبر خط أنابيب الغاز العربي بكميات أقل مما كانت تتلقّاه القاهرة قبل الحرب. من المؤكد أن هذا التطور جاء في ما كان على الأرجح أسوأ وقت ممكن بالنسبة إلى مصر، التي بدأ إنتاجها المحلي من الغاز في الانخفاض الحاد ما أدّى إلى نقصٍ في الإمدادات بشكلٍ مُخيف مُماثل لذلك الذي تسبب في أزمة الطاقة قبل عقد من الزمن، الأمر الذي نتج عنه انقطاع التيار الكهربائي والذي تمت إعادته في وقت سابق من هذا العام. بعد الانهيار الأولي في الواردات، تعافت التدفقات إلى حدٍّ ما وتمكنت مصر من تخفيف انقطاعات الكهرباء. ومنذ أن أكدت شركة شيفرون إعادة تشغيل “تمار” في 9 تشرين الثاني (نوفمبر)، من المفترض أن تكون التدفقات وصلت إلى مستويات ما قبل الصراع.
في حين تُسَلِّطُ هذه النتيجة الضوء على النقاط التي أُثيرَت في كثير من الأحيان حول موثوقية محطات الغاز الطبيعي المسال المصرية كمركز للصادرات الإقليمية، حيث أدت الحرب بالفعل إلى تفاقم العجز في الغاز في مصر، إلّا أنها لا تُشَكّلُ تغييرًا جذريًا عن الديناميكيات التي كانت راسخة قبل الصراع. إن التوقعات الغامضة لصادرات الغاز الطبيعي المسال من مصر إلى الأسواق الأوروبية قبل فصل الشتاء ليست هي الأخبار الأكثر ترحيبًا، لكن عودة نقص الغاز والطاقة إلى مصر قبل الحرب قد ألقت بالفعل بظلال طويلة من الشك على آفاق الصادرات الكبيرة على أيِّ حال. .
قد تُخَيِّمُ السياسة بشكلٍ كبير على صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر، فضلًا عن الكميات الأصغر التي تتدفّق إلى الأردن. وكان الغضب الشعبي في كلا البلدين قد تحوّلَ في السابق نحو تجارة الطاقة، حتى أنه أدّى إلى هجماتٍ مُتعدِّدة على البنية التحتية لخطوط الأنابيب في منطقة سيناء في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، فإن هذا الشعور لم يُشكّلُ بعد تهديدًا ملموسًا لواردات الغاز من إسرائيل من قبل أيٍّ من البلدين. وقد يتغير هذا الوضع مع استمرار الحرب، واستمرار عدد القتلى المدنيين في غزة في إثارة الغضب الدولي، ولكن من المرجح أن تقاوم القاهرة وعمّان أي ضغوط لوقف الواردات الإسرائيلية قدر استطاعتهما.
يكمن الاقتصاد في قلب هذه القضية. بالنسبة إلى مصر، فإنَّ حقيقةَ أنَّ انتعاشَ الواردات مَكّنَ من تخفيف انقطاعات الكهرباء يُسلّطُ الضوء على هشاشة توازن الغاز لديها والدور الذي تلعبه علاقات الطاقة مع إسرائيل. أما في الأردن، فإنَّ إنتاجَ الغاز المحلي ضعيف. إن إنهاء واردات الغاز الإسرائيلي في أيٍّ من البلدين سيتطلب تلبية الطلب بواردات الغاز الطبيعي المسال الباهظة الثمن من جهاتٍ أخرى، ما يتسبب في معاناةٍ اقتصادية لعامة السكان وتآكل احتياطات النقد الأجنبي في وقت تواجه فيه كل من القاهرة وعمّان أصلًا مشاكل اقتصادية كبيرة. في مصر، فإن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تلقي المزيد من الشكوك على تطلّعاتها إلى أن تصبح مُصدّرًا أكثر أهمية للغاز الطبيعي المسال من خلال طاقتها غير المُستَغَلّة في دمياط وإدكو. ونتيجة لذلك، من المرجح أن تبذل القيادتان الأردنية والمصرية قصارى جهدهما لتحويل الغضب تجاه إسرائيل بعيدًا من تجارة الطاقة، على الأقل في الوقت الحالي.
قطاع الغاز الإسرائيلي يواجه مخاطر التصعيد في ظل حكومة ما بعد نتنياهو
على الرُغم من توقّف العمليات في حقل “تمار”، لا يوجد حاليًا سوى القليل مما يشير إلى أن الاهتمام التجاري بقطاع المنبع في إسرائيل قد تضرّرَ بشكلٍ كبير بسبب الصراع. أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية عن نتائج جولة العطاءات البحرية الرابعة في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، وكشفت أنه تم منح 12 رخصة تنقيب بالتساوي بين اتحادَين بقيادة شركة النفط والغاز الإيطالية الكبرى “إيني” و”سوكار” الأذربيجانية، على التوالي. الدخول إلى إسرائيل يجعل من “إيني” الشركة الدولية الكبرى الوحيدة التي يمكنها القول بأنها موجودة في كل دولة منتجة للغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ ومع وجود شركة “بي بي” (بريتيش بتروليوم) في كونسورتيوم شركة “سوكار”، دخلت الآن ثلاث شركات عالمية كبرى في مجال النفط والغاز إلى قطاع التنقيب والإنتاج في إسرائيل (كانت شركة شيفرون أول من فعل ذلك من خلال استحواذها على شركة نوبل إنيرجي في العام 2020). أمام الشركات ثلاث سنوات أو أكثر لبدء الاستكشاف، ما يجعلها تتمتع على الأرجح بفترة أطول للدرس خلال الصراع قبل اتخاذ قرار بشأن مسار العمل، ولا يبدو أن ذلك قد أضعف الاهتمام في المدى القصير بالمساحات الإسرائيلية.
مع ذلك، لا يزال هناك ما يبرر الحذر. لقد تمَّ أعلاه تحديد المخاطر المحتملة لاستمرار الصادرات من إسرائيل إلى مصر، مهما كانت صغيرة في شكلها الحالي. لم ينجح الصراع حتى الآن في زيادة الشكوك التي كانت موجودة منذ سنوات بشكلٍ كبير حول طُرق التصدير المُحتَملة خارج مصر والأردن وإلى صادرات الغاز الطبيعي المسال الأكثر ربحية. كانت المخاطر المادية التي تتعرّض لها أصول الغاز في إسرائيل، رُغم أنها بلغت أعلى مستوياتها على الإطلاق، واضحة تمامًا لأيِّ مُشَغِّلٍ في قطاعها قبل وقت طويل من بدء الصراع؛ وفي العام الماضي فقط، وجه “حزب الله” اللبناني تهديدات مباشرة للأصول في حقل كاريش الإسرائيلي، إلى أن نجح اتفاق بوساطة أميركية في ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان.
وهذا يثير التساؤل حول ما الذي تغيّرَ بالفعل، إن تغير أي شيء، بالنسبة إلى قطاع المنبع الإسرائيلي؟ من المرجح أن نجد الإجابة في المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل، الذي أصبح مُتقلِّبًا على نحوٍ متزايد قبل الصراع. إن وضع بنيامين نتنياهو باعتباره رئيس الوزراء الأطول خدمة في التاريخ الإسرائيلي يعني أن صناعة الغاز الحديثة نسبيًا قد تطورت بالكامل تقريبًا في ظل عمليةٍ تنظيمية أشرفت عليها حكومات نتنياهو المتعاقبة، مع فترة 18 شهرًا بين حزيران (يونيو) 2021 وكانون الأول (ديسمبر) 2022 تمثل الاستثناء الوحيد لهذه الديناميكية. ومع إشارة الاتجاهات الحالية إلى أن حقبة ما بعد نتنياهو من المرجح الآن أن تكون أقرب من أي وقت مضى، تواجه الصناعة قدرًا كبيرًا من عدم اليقين التنظيمي.
ويبدو أنَّ ظهورَ حكومةٍ إسرائيلية مُعادية تمامًا لصناعة الغاز أمرٌ غير مرجح في الوقت الحالي. وقد عكست وزيرة الطاقة السابقة كارين الهرّار، التي أعلنت في العام 2021 عن تحوّلٍ في السياسة بعيدًا من الغاز وإلغاء جولة العطاءات الرابعة، هذا الموقف عندما سلط اندلاع الصراع الروسي-الأوكراني الضوء على القيمة الاستراتيجية للقطاع. وفي حين وافقت إسرائيل على تخفيف حصص التصدير في وقتٍ سابق من هذا العام، فإنَّ الدَعمَ لهذا القرار لم يكن عامًا داخل حكومة نتنياهو، مما يشير إلى أن المخاطر التي تهدد النمو المستقبلي للصادرات الإسرائيلية لا تأتي فقط من الدول المجاورة الغاضبة من تعامل إسرائيل مع حرب غزة، ولكن أيضًا من إسرائيل نفسها. وبما أن فترة قيادة نتنياهو لإسرائيل كان لا بد أن تنتهي دائمًا بطريقة أو بأخرى، فإنَّ الظروف السياسية التي تطورت في ظلها الصناعة تعني دائمًا أنَّ أيَّ حكومة جديدة تُمثل مياهًا مجهولة لقطاع الغاز. ولكن بمجرد أن يصبح الاهتمام العام في إسرائيل مُوَجَّهًا بقوة نحو المُساءلة عن الإخفاقات الأمنية التي أدت إلى هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فمن الصعب أن نرى السياسة الإسرائيلية تصبح أقل اضطرابًا مما كانت عليه في الماضي القريب، الأمر الذي سيزيد من عدم اليقين بشأن البيئة التنظيمية لقطاع الغاز، أو يُحتَمَل أن يؤدي ذلك إلى المخاطرة بمزيد من التدهور في المشهد الأمني الذي يهدد الصناعة بشكل مباشر.
مع استمرار الحرب، ستظل حالة عدم اليقين مُخَيِّمة بشأن مستقبل صناعة الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط وقدرتها على أن تصبح مصدرًا رئيسًا للأسواق الأوروبية أو الأسواق الأخرى. ومما لا شك فيه أن التصعيد الذي يؤدي إلى أضرار جسيمة لأصول الغاز، سواء كان مقصودًا أو غير مقصود، سيُمثّل التحوّل الأكثر خطورة للأحداث بالنسبة إلى القطاع حتى الآن. ومع ذلك، لم يحدث شيء من هذا القبيل حتى الآن، وفي غياب مثل هذه النتيجة، من الصعب التأكيد على أن الحرب قد غيّرت آفاق المنطقة بطريقة غير مسبوقة أو تَغَيَّرتَ بشكلٍ جذري طبيعة التحديات التي واجهتها قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر).
- كولبي كونيلّي هو باحث غير مقيم في برنامج الاقتصاد والطاقة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، ومُحَلِّل أوَّل في “Energy Intelligence“.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.