المغرب – الجزائر: أُصولُ الخِلافِ وضروراته

محمّد قوّاص*

لم يُوَفّر الزلزال الذي ضرب المغرب أخيرًا ظروفًا مناسبة لتطبيع العلاقات مع الجزائر. وكان واضحًا أنَّ حِدّةَ الخلافاتِ بين البلدين التي وصلت إلى حدّ القطيعة الديبلوماسية في آب (أغسطس) 2021 لا تتيح تجاوزًا عاطفيًا عفويًا تبيحه مشاهد الكارثة. ولئن كرّرت الرباط خلال السنوات الماضية، لا سيما في مواقف العاهل المغربي الملك محمد السادس، الدعوة إلى فتحِ صفحةٍ جديدة مع الجزائر، غَيرَ أنَّ لإغلاقِ ملفِّ الخلاف أصولًا وقواعد عمادهما الأوّل والأساسي هو ملف الصحراء الذي ما زال مادةَ تنافرٍ سبّبت سجالًا جديدًا في الجمعية العامّة للأمم المتحّدة (الثلثاء 26 أيلول/سبتمبر 2023) بين السفيرين المغربي عمر هلال والجزائري نذير العرباوي.

وقد تكون خلفية الخلاف بين الرباط والجزائر سابقة على قضية الصحراء وتعود إلى “حرب الرمال” التي اندلعت في العام 1963 على الحدود بين البلدين، والتي ما زالت ظلالها ثقيلة على ذاكرة البلدين المشتركة. والأرجح أيضًا أنَّ مادةَ التباعد تعود إلى طبيعة النظامين السياسيين وتوجّهاتهما وأدوارهما داخل المشهد الدولي العام، إلى درجة أن يعتبر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في آذار (مارس) الماضي أن علاقات بلاده مع المغرب “وصلت إلى نقطة اللاعودة”.

في التاريخ الحديث تباينَ مزاجُ الجزائر السياسي الإيديولوجي مع ذلك المُنتَهَج تقليديًا وتاريخيًا في المغرب. فـ”الجمهورية” التي خرجت في الجزائر بعد حرب التحرير ضد الاحتلال الفرنسي أفصحت منذ الاستقلال في العام 1962 عن توجّهاتٍ يسارية قومية عالمثالثية قريبة من المعسكر الاشتراكي الثوري في حقبة الحرب الباردة، فيما “الملكية” المغربية المُتناسِلة من حقباتٍ تاريخية متوالية بقيت محافظة في توجّهاتها السياسية مُرتابة من التيارات الثورية التي ظهرت في المنطقة بعد الاستقلالات، سواء بالنُسَخِ العروبية القومية أم اليسارية المُتّصلة بتمدّدٍ دولي كان الاتحاد السوفياتي قائدًا له.

وفق تباعد الطباع اختلفت الطبائع في خيارات الجزائر والرباط في السياسة الخارجية، الإقليمية والدولية. ووفق هذا الواقع، تناقضت التوجّهات المتبادلة بين البلدين على نحوٍ جعلَ من الخلاف حول قضية الصحراء سياقًا مُكمّلًا وطبيعيًا لحالة التوتّر التي تكاد تكون بنيوية في طبيعة علاقات البلدين. فإذا كان المغرب متمسّكًا بمغربية الصحراء والسيادة الكاملة عليها بعد زوال الاستعمار الإسباني في العام 1976 ودفع من أجل ذلك بـ”المسيرة الخضراء” في تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، فإن موقفَ الجزائر لا يقومُ على نزاعٍ حول حقوقٍ للجزائر في الصحراء بل على دعمٍ لحركة بوليساريو الانفصالية بداعي الدفاع المبدئي عن “حق الشعوب في تقرير مصيرها”.

من حقِّ المغرب أن يعتبرَ موقفَ الجزائر عذرًا لاستكمال حالة “الحرب الباردة” بين البلدين. تعتبرُ أوساطُ الرباط أنه لو لم يكن هناك نزاعٌ بين العاصمتين بشأن الصحراء لتقدّمت الجزائر بملفّاتٍ أخرى لمواصلة الخلاف والاختلاف إلى حدِّ التلويح الدائم باحتمال نزوعه نحو الصدام العسكري. في المقابل، فإنَّ الجزائر تُطلقُ مواقفَ قديمة جديدة لانتقاد النظام السياسي في المغرب والتعبير عن عدم الثقة بأجندته وتوجّهاته الجيوستراتيجية. وما يُسعّر الخلاف بين البلدين هو موقفٌ دولي متأرجح مخصّب بانتهازية لا يوفّر بيئة حاضنة لوفاقٍ بين البلدين.

ورُغمَ اندثار الحرب الباردة بعد سقوط جدار برلين في العام 1989، وما طرأ من تحوّلاتٍ جذرية على المشهد الإيديولوجي في العالم، ورُغمَ ما يُثارُ عن احتمالاتٍ تُشكّلُ نظامًا دوليًا جديدًا، وخصوصًا إثر اندلاع الحرب في أوكرانيا، فلا شيء تحرّك أو تحوّل في جدار الخلاف المغربي-الجزائري. ويَسهلُ على المراقب ملاحظة أن اللغة المتبادلة المُستخدَمة في السنوات الأخيرة باتت أكثر انفعالًا، وأن الجزائر توطّد علاقاتها مع روسيا والصين وكانت تُمنّي النفسَ بمقعدٍ داخل مجموعة “بريكس”، فيما تتطور علاقات المغرب مع الولايات المتحدة وعواصم غربية كبرى أخرى.

وتتمحور سياسة المغرب مع دول العالم حول موقف عواصم هذه الدول من قضية الصحراء. يُسَجَّلُ هنا تحوّلُ موقف الولايات المتحدة وألمانيا وإسبانيا مثلًا باتجاه تبنّي رؤية المغرب في مسألة السيادة على الصحراء والحلّ الذي تقدمه الرباط والمتعلّق بحكم ذاتي يقوم هناك تحت السيادة المغربية. وإذا ما كانت الرباط ترى أن “ملفَّ الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، وفق ما قاله عاهل البلاد في آب (أغسطس) 2022، فإن انضمامَ المغرب في كانون الأول (ديسمبر) 2020 إلى الاتفاقات الإبراهيمية جاء “وفق هذه الحيثيات وبناءً على هذا السياق”.

غيرَ أنَّ هذا التطوّر الأخير منح الجزائر ذخيرةً جديدة في سجالات الخلاف مع المغرب. يروحُ بعض مواقف الجزائر إلى اعتبار تطبيع العلاقات المغربية-الإسرائيلية مناورة تستهدف أصلًا وحصرًا أمن الجزائر. وتستعيد الجزائر خطابًا قديمًا بشأن الموقف من فلسطين والقضية الفلسطينية، وتُروِّجُ لدورٍ لها لترتيب البيت الفلسطيني المُنقَسِم. ولئن ما زالت مسألة تطبيع العلاقات العربية-الإسرائيلية تخضع لتبايُناتٍ وتبقى بمستوى ثنائي تقرّره الدول العربية مُنفردة، غير أنَّ أمرَ تطوّر علاقات المغرب وإسرائيل يمنح الجزائر منبرًا إضافيًا لتحصين خطاب الخلاف مع الرباط.

بانتظار التقرير الذي سيُوجّهه الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن حول قضية الصحراء في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، ورُغمَ ما يُمكنُ أن ينتجَ من الجهد الأممي الذي يقوده المبعوث الأممي المكلف ملف الصحراء الغربية، ستافان دي ميستورا، لا سيما جولته في المنطقة في بداية شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، ورُغمَ جولة لمساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون شمال أفريقيا، جواشا هاريس، إلى المغرب والجزائر ومخيّمات اللاجئين الصحراويين في تندوف ومداولات النزاع على هامش الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، غير أنَّ موقف الجزائر وارتباك الموقف الدولي العام وانقسامه لا يسمح بمنافذ حلّ بالفَرضِ أو بالتراضي بإمكانها أن تكونَ مدخلًا لحلحلة عُقَدِ علاقات المغرب والجزائر.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة “X” (تويتر سابقًا) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى