إيران وغزّة: أينَ قاآني؟

محمّد قوّاص*

تَستَثمِرُ إيران مجموعةً من المواقفِ المُعلَنة وتُخرِجُ من معطفها مواقفَ توحي بها لكي تكون شريكةً في حدثِ غزة. والمُعلَنُ ما صدرَ من طهران في 10 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، على لسان المرشد علي خامنئي، من نفي وجود علاقةٍ لها بعملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها “كتائب عز الدين القسام” في 7 من الشهر نفسه. أعادت البعثة الإيرانية لدى الأمم المتحدة تكرار وتأكيد ذلك، في سعيٍ لإبلاغِ المجتمع الدولي بعدم تورّط طهران بما تصفه إسرائيل بـ”اليوم الأسود”.

أمّا المواقف التي يوحى بها، هي تلك التي تعبّر عنها ردود فعل الجماعات الموالية لإيران في العراق واليمن وسوريا ولبنان، خصوصًا تلك التي تصدر عن قادة “حزب الله” والمنابر المُحيطة به، ناهيك بالاشتباكات التي تجري على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، والتي ما زال الحزب وإسرائيل يعتبرانها ضمنًا جُزءًا من قواعد الاشتباك وقوانينه. ومن المواقف الرسمية الإيرانية حمّالة الأوجه، هي تلك التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من بيروت، الذي لم يستبعد اشتعال جبهات أخرى، وصولًا إلى فتواه لاحقًا بشأن “الهجوم الاستباقي”.

غير أنّ التوجّه الإيراني العام هو عدم إبداء أيِّ أعراضٍ يُشتَمُّ منها تحريضًا يغطّي نزوع جماعاتها، خصوصًا “حزب الله”، إلى المشاركة في “معركة غزة”. ولم تُسَجَّل أيُّ تصريحاتٍ لافتة لأيِّ منابر إيرانية حاكمة تعبّر عن التيار المحافظ الحاكم، تدفع باتجاه تصعيدٍ إيراني واتخاذ مواقف تتجاوز تلك المبدئية المناصرة لحقوق الفلسطينيين. بدا أنّ كلمة سرّ يتمّ الالتزام بها، قد تكون مرادفًا للدعوة التي أطلقها الرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي في 10 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، بانتهاج “الحكمة السياسية” بشأن القتال في غزة و”إعطاء الأولوية للمصالح الوطنية الإيرانية (…) وتبنّي سياسة خارجية معتدلة”. فحتى دعوات خامنئي الأخيرة إلى “الردّ على ما يجري في غزة” تبقى صوتية محدودة الصدى داخل الميادين.

في هذا الصدد، وجب ملاحظة اختفاء الجنرال اسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري عن المشهد. أرسلت طهران رئيس الديبلوماسية عبد اللهيان ليجول في المنطقة، بما في ذلك لقاء قيادة “حماس” في الدوحة، في خطوةٍ يُرادُ منها بعث رسائل سياسية إلى العالم، خصوصًا إلى الولايات المتحدة، وإبلاغ حلفائها في المنطقة بالتوجّهات التي تنتهجها طهران في هذه الظروف والواجب على الموالين التقيّد بها. ولئن استخدمَ الرجلُ تهويلًا عن تدخّلٍ مُحتَمَل (وفق موقع “أكسيوس”) هو جُزءٌ من الخطاب التقليدي للجمهورية الإسلامية، غير أنّ المضمون العام أراد تقديم إيران لاعبًا أساسيًا داخل الحدث وشريكًا كامنًا لمآلاته اللاحقة انطلاقًا مما قاله في بيروت من أنّ “المهم بالنسبة إلينا هو أمن لبنان والحفاظ على الهدوء فيه”.

والحالُ أنَّ الرئيس الأميركي جو بايدن اعترف بالعمل الإيراني في حرب غزة في ما أعلنه من تهديدٍ لإيران، والطلب إليها بعدم التدخّل في الحرب وتوسيع رقعتها. جاء الوعيد تعليقًا على تعجيل واشنطن بإرسال سفن حربية وحاملات طائرات في إيحاء باحتمالاتٍ لتدخّل الولايات المتحدة عسكريًا إذا ما فعّلت طهران جبهاتها وأطلقت العنان لـ”وحدة الساحات”. وكان لافتًا مستوى اليقين حين استبعد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من تل أبيب أن تكون هناك جبهة حرب ثانية مع “حزب الله”. وإذا ما كان للهمّة العسكرية الأميركية منافع متعلّقة بحملة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة لعام 2025، فإنّ طهران تلعب على هذا الوتر وتستدرج واشنطن لملاحق أخرى لصفقتهما الأخيرة.

والمُفارقةُ تَكمُنُ في تخبّطِ الموقف الأميركي ما بين البناء على صفقة تبادل السجناء مع إيران للعبور نحو تفاهماتٍ أخرى، لا سيما بشأن برنامجها النووي، والذهاب في المقابل إلى التلويح بالخيار العسكري ضدّ طهران. لكن المُفارقة الأكبر أنّه فيما كانت حكومات إسرائيل، لا سيما تلك التي انبثقت عن الانتخابات التشريعية العام الماضي، تسعى إلى إقناع الولايات المتحدة بالتلويح بالخيار العسكري ضدّ إيران في وقت كانت تؤكّد واشنطن تمسّكها بالمفاوضات، فإنّ عملية “طوفان الأقصى” في غلاف غزة قلبت ذلك المزاج ودفعت واشنطن (وبريطانيا) إلى إرسال “أسطولهما” صوب الشرق الأوسط للتضامن مع إسرائيل والدفاع عنها والجهر بتهديد إيران على لسان رئيسها.

يطرحُ الأمرُ أسئلة أيضًا بشأن تداعيات العملية العسكرية التي قام بها جناح “حماس” في غزة (الأكثر تحالفًا وولاءً لطهران) وتأثيره المباشر في موقع إيران الجيوستراتيجي في كل المنطقة. ومن الأسئلة ما يدور بشأن موقف الجمهورية الإسلامية الحقيقي من العملية ومن الحرب، سواء في نأي طهران بالنفس عنها وإعلان عدم علاقتها بها على لسان المرشد بشخصه، أم في احتمالات مشاركة محور إيران، لا سيما “حزب الله”، من عدمها في مواجهة متعددة الجبهات مع إسرائيل، خصوصًا أنّه احتمالٌ لم يستبعده وزير الخارجية الإيراني في بيروت.

تتحرّك إيران على حبالٍ حساسة تأخذ في الاعتبار مصالح ومزاج العواصم العربية التي جال عليها وزير الخارجية الأميركي. تأخذ طهران علمًا بما نُشِرَ من قرارٍ سعودي بوقفِ مفاوضات التطبيع مع إسرائيل. وتسعى إلى “حكمةٍ” دعا إليها خاتمي إلى عدم التشويش والمزايدة على الموقف العربي المتناغم الرافض لـ”نكبة” فلسطينية جديدة والمتناقض مع الموقف الأميركي وما حمله بلينكن من رؤى. لكن إيران، ومن خلال جولة وزيرها في العراق وسوريا ولبنان، تُبلّغُ المنطقة وواشنطن على السواء بالحدائق التي تسيطر عليها والتي تؤكّد ثباتها داخل نفوذها عند كل استحقاق مفصلي.

تتحرّك إيران من جهة أخرى على خلفية ما يصلها من مزاجٍ مُعادٍ لها داخل واشنطن ونخبة الحكم فيها. واللافت أنّ الدعوات التي صدرت هناك بالتراجع عمّا اتّفق عليه في صفقة تبادل السجناء (لجهة مطالبة الإدارة بإعادة تجميد الأموال الإيرانية التي أُفرج عنها في كوريا الجنوبية وتمّ تحويلها إلى حساب مصرفي في قطر)، تقابلها طهران بلهجةٍ ديبلوماسية تتجاهل تلك الدعوات، وكأنّها جلبة تثق بأنّ إدارة بايدن كفيلة بتجاهلها. ومعلومٌ أنّ أصواتًا من الحزب الجمهوري حمّلت بايدن مسؤولية منحه طهران هذه الأموال (6 مليارات دولار) بزعم استخدامها في العملية التي نفّذتها “القسام” من غزة. غير أنَّ طهران لا تستخف بدعوات مثل تلك التي لم يستبعدها السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام بقصف إيران.

وتُساهِمُ التقارير التي تصدر في إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا (في بريطانيا خصوصًا) بشأن خطورة فتح الجبهة الشمالية من لبنان، في تعظيم دور إيران وموقفها من هذه الحرب. ولا يخلو ما هو منشور من اعتراف مقصود لإيران بشراكتها في تقرير مصير الحرب ونتائجها، فتأخذ طهران علمًا بـ”الهاجس” الإسرائيلي الأميركي، وتلوّح بأوراقها التي فاضت من حقيبة وزير خارجيتها، في وقت تؤكّد أنباء عن عودة تفعيل قناة الاتصال الخلفية بين طهران وواشنطن، التي يتقرّر وفقها إطلاق قاآني إلى مقدّمة المسرح من عدمه، وتتقرّر أيضًا عودة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله  إلى إطلالة أُلغيت الجمعة الماضي أو بقاؤه في الظل حتى إشعارٍ آخر.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى