لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (14): دولةٌ تُحارِبُ شَعبَها

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

يَظُنُّ كثيرون، تحتَ وابِلٍ من الدعايةِ والإعلامِ التضليلي، أنَّ الأنظِمَةَ التي يُسَمُّونها “ديكتاتورية” أو “توتاليتارية”، تُحارِبُ شعوبها، وهذا كلامٌ غيرُ دقيق. نعم، هي تَقمَعُ مُعارِضيها في الداخل، وتتصدَّى لخصومِها في الخارج، وتُقيِّدُ بعضَ الحرِّيات، كإجراءٍ وقائي، لكن معظمها قدَّم خدماتٍ جليلةٍ لعمومِ شعبه. الأنظمةُ الميليشياوية المولودة في رحم الحرب الأهلية، هي التي تُحارِبُ شعوبَها أثناء جولاتِ القتال، وتنهبها خلال ما تُسَمّيه “السلم الأهلي”، وهو في واقعِ الحال “حربٌ أهلية” مُقنَّعة، كما شاهدنا ونُشاهِدُ في لبنان.

الشواهِدُ والأسانيدُ على ذلك كثيرة، نذكُرُ منها الأمثلة التاريخية الآتية:

(1) حَكَمَ نابليون بونابرت في فرنسا، كنظامٍ ديكتاتوري قامَ على أنقاضِ ميليشيات الثورة الفرنسية، التي سمَّاها البريطاني ريتشارد كوب، وهو المرجع الأكبر في أوروبا حول الثورة الفرنسية: “جيوش الشعب”. (منحه الرئيس فرانسوا ميتران وسام جوقة الشرف لدرسه الثورة الفرنسية بالعمق، وهو يُعاني من عَجزِ الشيخوخة، وعندما سأله أحد الصحافيين ماذا ستفعل بهذا الوسام، أجابه مُمازِحًا: “سوفَ أُعلّقه على صَدرِ ببجامتي!”.

كانَ حُكمُ نابليون حُكمًا عسكريًا فرديًا أرهقَ الشعبَ الفرنسي بالحروبِ المُتتالية، وأزهَقَ فيها أرواحَ ما لا يقلّ عن مليون جندي. لكنه كانَ يُحارِبُ بالشعبِ الفرنسي، ولا يُحارِبُ الشَعبَ الفرنسي. واليوم نَسِيَ الفرنسيون والعالم حروبَ نابليون، ويتذكّرون بفخرٍ “القانون المدني العصري” الذي وضعه لجميع الشعب الفرنسي وما زال ساري المفعول إلى اليوم… وسيبقى.

(2) الحالة الستالينية في روسيا والاتحاد السوفياتي، من مطالع القرن العشرين الى منتصف خمسينياته، كانت وما زالت في الإعلام التضليلي، أعلى مراحل الحكم الديكتاتوري الذي حارَبَ وقتلَ شعبه. وقد مارس ستالين سياسة الشدّة، في ظنٍّ منه أنَّ ذلك “من أجلِ تَقَدُّمِ جميع الشعب”.

إنَّ روسيا كما خلقتها الطبيعة هي أكبر دولة في العالم من حيثُ المساحة، تُساوي مجموع مساحة الولايات المتحدة، وكندا، والصين، وفيها ستة عشر نطاقًا زمنيا لأنَّ معظم خطوط الطول والعرض للكرة الأرضية تمرُّ فيها، وهي تمتدُّ من البحر الأسود إلى المحيط الباسيفيكي، ومن جورجيا جنوبًا الى المحيط المتجمّد الشمالي. هذه المساحةُ العُظمى من الأرض زرعها ستالين من أقصاها إلى أقصاها بشبكاتِ الكهرباء من أجلِ تَقَدُّمِ الشعب الروسي، لا من أجل مُحارَبته، وحَوَّلَ روسيا من دولةٍ إقطاعية تملكها عائلاتٌ أرستقراطية قليلة إلى دولةٍ صناعيةٍ مُتقدّمة، بل جعلها دولة عظمى مُهابة في العالم. ولستُ أظنُّ أنَّ أحدًا يُمكِنُ أن ينسى أنَّ روسيا هي أول دولة في العالم أطلقت قمرًا اصطناعيًا إلى الفضاء (سبوتنيك) في أواسط خمسينيات القرن العشرين، وأول قمر حمل حيوانًا الى الفضاء (الكلبة لايكا)، وأول رجل (يوري غاغارين)، وأول امرأة أيضًا. وإلى اليوم تُخرِّج كليات العلوم والرياضيات الروسية، أكبر عدد من الطلاب في هذه المجالات في العالم بالنسبة إلى عددِ السكان، ولا تَستَورِدُ العُلماء من الخارج.

(3) النظام الفرانكوي، الذي قام بعد الحرب الأهلية، كحالةٍ ميليشياوية في الحرب وفي السلم (كما في لبنان)، قتلَ من الشعب الإسباني، بعد حلول السلام، أكثر مما سقط في الحرب الأهلية.

فقد أعلنَ فرانكو فور انتصاره قائلًا: “صحيحٌ أنَّ الحربَ انتهت، لكنَّ العدو ما زال على قيد الحياة”. وفي السنوات الأربع التي تَلَت نهاية الحرب (1939 – 1943)، قامَ نظامُ فرانكو بعملياتِ إعدامٍ واغتيالاتٍ مُنظَّمة ذهبَ ضحيّتها نحو ربع مليون شخص من خصومه السابقين.

فقد قال الديبلوماسي والكاتب والمؤرخ الإسباني المعروف، سلفادور دي مادارياغا (رُشِّح لجائزة نوبل للأدب وجائزة نوبل للسلام):  “دولةٌ عسكريةٌ في حربٍ مع شعبها، ليس كلامًا مجازيًا. إنّهُ تعريفٌ فاضِحٌ للأساسِ القانوني لدولةِ إسبانيا الراهنة” (من كتاب أنطوني بيفور “الحرب الأهلية الإسبانية”، 1982).

نعم، هناكَ أنظمةٌ تُحارِبُ شعوبها، وهي الأنظمة الميليشياوية الأصل والجذور، تقتله وتنهبه في الحرب، وتُصادِرُ معاشه وجنى عمره في السلم، كالمنشارِ يأكل ذهابًا وإيابًا.

أنظروا إلى لبنان!

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى