السياسة والسبيل لإنقاذ لبنان

بقلم غسان سعادة*

عند طرح السؤال: ما هي السياسة؟ سيبدو للبعض أنه سؤالٌ بسيط وأن الجواب عنه بسيطٌ ايضاً. لكن ليس لهذا السؤال الذي يبدو للوهلة الاولى بسيطاً من جواب بسيط، إذ أنه وعبر التاريخ نجد ان مُنظّري السياسة كما الذين مارسوها أعطوا معانٍ عدة ومُختلفة لما تنطوي عليه هذه الكلمة، وكان بعض التعريفات مُناقِضٌ لبعضها الآخر. وكان البعض منها أكثر أو أقل شمولاً من بعضها الآخر. وعليه فإنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يُعطى تعريفٌ لهذه الكلمة يحظى بموافقة الجميع .

عرف الإغريق السياسة بأنها النشاطات المُرتَبطة في صنع قرارٍ جماعي، أو بالأشكال الأُخرى من علاقات السلطة بين الأفراد. أما في العلوم السياسية المعاصرة فهناك على الأقل مفهومان أو تعريفان بارزان لكلمة سياسة احدهما يُحدّدها بنطاقٍ مُعيَّن، والثاني يُعطي لها بُعداً أكثر شمولاً. التعريف الاول يقول أن السياسة هي ما يتعلق بالدولة. وفي هذا السياق يُميز التعريف بين الدولة والحكومة، فالأولى تتميّز بأن لها مؤسسات دائمة تُمارس من خلالها تقديم الخدمات العامة وتنفذ القوانين وتؤمن الأمن والحَوكَمة للافراد، وكذلك توفر الإدارة العامة لشؤون البلاد على أراضي الدولة، في حين أن الحكومة تتألف من السياسيين الذين في مرحلة ما يتولّون الحكم ويديرون الدولة لكونهم مُنتَخَبين بصورة ديموقراطية من الشعب للقيام بذلك. وبهذه الصفة يقوم السياسيون بتحديد الخدمات العامة للدولة، والقوانين الواجب تطبيقها، كما والقوانين الواجب تشريعها، والأمن الواجب توفره، والهدف الذي من اجله تحكم الدولة الشعب وتدير شؤون البلاد.

رأى الكثيرون أن التعريف الحديث الذي يربط السياسة بالدولة تعريفٌ محدود الأفق رُغم شموله لمساحةٍ واسعة من الدولة ومؤسساتها والعاملين فيها، وعلاقاتها الداخلية والخارجية وإدارتها لشؤون البلاد، فاقترحوا معاني عدة بديلة أشمل وأعَمّ ، منها ما أورده دانيال كريك الذي قال: ”السياسة هي حلُّ مسائل النظام بالتوفيق بين الخصوم بدلاً من العنف أو الإلزام”.

في الذكرى المئوية لدولة لبنان الكبير، وعلى ضوء الواقع المُتردّي الذي اوصلت السياسة الدولة االيه، الأمر الذي استدعى انتباه العالم بعد إنفجار الرابع من آب (أغسطس) ٢٠٢٠ حين استشعر إمكان اندلاع حرب أهلية بسبب إنهيار الدولة وعملتها الوطنية، واستمرار إمساك الطبقة الحاكمة بالدولة بكل مفاصلها، وعلى رأس من ابدى إهتماماً بلبنان دولةً وشعباً الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ما يجعل من المفيد والمجدي في هذه المناسبة ان يستعيد اللبنانيون الكلام السياسي الذي قاله شفاهة عندما تجوّل في أحياء منطقة الأشرفية المُدمَّرة حين رد على أحد مخاطبيه الذي طلب منه ألّا يتعاطى مع السياسيين اللبنانيين فأجابه بقوله،” هؤلاء هم ممثلوكم الشرعيون، ويُمثّلون الدولة اللبنانية، وعلينا التعامل معهم لكونهم أصحاب الصفة”. كما قال خلال الزيارة نفسها أن لا مساعدات قبل إجراء الإصلاحات المطلوبة، وكان سبق ذلك قول وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الذي عاد وكرّره الرئيس ماكرون: ”ساعدوا انفسكم لكي نساعدكم”.

أصبح معروفاً أن أحداً غير مستعد لإرسال مساعدات الى لبنان قبل إجراء إصلاحات تؤدي الى وأد الفساد المُستشري في أجهزة الدولة، وتبنّي الشفافية في معاملات الدولة المالية والإدارية والقضائية التي بات المجتمع الدولي، كما الشعب اللبناني، يطالب بها كشرطٍ مُسبَق قبل المباشرة في إرسال أية مساعدات وذلك لعدم ثقة المجتمعين الدولي واللبناني بقدرة الدولة اللبنانية باجهزتها ومسؤوليها الحاليين على أن توصل بامانة المساعدات الى المُرسَلة إليهم الأمر الذي دفع بالرئيس الفرنسي ووزير خارجيته الى ترديد القول للشعب اللبناني: ”ساعدوا أنفسكم لكي نساعدكم”.

مثل هذا القول صدر أيضاً عن مسؤولين آخرين من أوروبيين وأميركيين وعرب وسواهم مما يوجب على اللبنانيين أن يفهموا هذا القول على النحو الذي اراده قائلوه، أي على اللبنانيين إن ارادوا الخروج من أزماتهم أن يُغيّروا قياداتهم، كما على اللبنانيين أن يُدركوا على انه في مسارهم الى التغيير تكمن إحدى وأعتى مشكلاتهم، إذ في الطريق الى التغيير سيكمن شياطين الفساد وليس فقط شيطان التفاصيل.

وعليه، وبما أنه في الأنظمة الديموقراطية لا سبيل للشعب ان يساعد نفسه إلّا من خلال واحدة من وسيلتين: الأولى من طريق صندوق الإقتراع، وهي المطلوبة والمرغوبة، والثانية بالعنف والإلزام، وهي مُدمّرة وغير مطلوبة ولا مرغوبة، وبالتالي فمصير لبنان وشعبه مُعلَّق الآن على الخيار السياسي الأول، أي إجراء التغيير بالوسيلة الديموقراطيه الوحيدة المُتاحة عبر صندوق الإقتراع، وهذا سيتطلب تعديل قانون الإنتخاب الحالي بحيث يصبح مُمكناً للشعب إختيار ممثلين عنه خارج دائرة الطائفية والزعامات والأحزاب التقليدية التي عاثت بلبنان فساداً منذ عقود، واوصلت لبنان الى ما هو عليه الآن. وهذه الطبقة لن تتخلّى عن مكاسبها وامتيازاتها إلّا بعد صراع مرير. وعليه سيكون لزاماً على القوى المُطالبة بالتغيير ان يكون لها برنامج سياسي واضح ومحدد يجري إستفتاء الشعب عليه، وأن يتضمّن اولويات منها، مثالاً لا حصراً، إقرار مبدأ سيادة القانون، وفصل الدين عن الدولة، وتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية وتعزيز الرقابة الدستورية عليه، مكننة كل معاملات الدولة الإدارية والقضائية، إصلاح شامل لكامل السلطتين التنفيذية والقضائية، والعمل على تفعيل إستقلالية السلطة القضائية وتشديد سلطة التفتيش عليها، بحيث يُعاقب القضاة الفاسدون كما المتجاوزون للقانون، وتسريع الإجراءات القضائية وإصدار الاحكام حتى لا يبقى القضاء مقبرة للحقوق.

بالسياسة المُلتزمة بحلّ مشكلات النظام بالتوفيق بين الخصوم وفق القانون، سيكون كل اللبنانيين منتمون للبنان بهوية مواطنتهم لا بهويات طوائفهم أو عشائرهم او قبائلهم، وفي ذلك يكون السبيل لإنقاذ لبنان..

  • غسان سعادةهو محام لبناني مُقيم في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى