يومٌ لن يُنسى: كيف غيّر “طوفان الأقصى” العلاقة بين فلسطين وإسرائيل إلى الأبد

رمزي بارود*

بغضِّ النظر عن الاستراتيجية المُحَدَّدة التي تنتهجها حركة “حماس” الفلسطينية، أو أي حركة فلسطينية أخرى، فإنَّ الحملةَ العسكرية الفلسطينية الجريئة، في عمق إسرائيل، يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول، لم تكن مُمكنة إلّا لأنَّ الفلسطينيين سئموا ببساطة.

قبل سبعة عشر عامًا، فرضت إسرائيل حصارًا مُحكَمًا على قطاع غزة. غالبًا ما يتم تقديم قصة الحصار بتفسيرَين مختلفين تمامًا. بالنسبة إلى البعض، يُعَدُّ هذا الأمر عملًا غير إنساني من أعمال “العقاب الجماعي”؛ وبالنسبة إلى آخرين، فهو شرٌّ لا بدَّ منه حتى تتمكّن إسرائيل من حماية نفسها مما يسمى بالإرهاب الفلسطيني.

لكن الشيء المفقود إلى حد كبير في القصة هو أن 17 عامًا هي فترة كافية لينشأ جيلٌ كاملٌ تحت الحصار، ويلتحق بالمقاومة ويقاتل من أجل حريته. ووفقًا لمنظمة إنقاذ الطفولة، فإنّ ما يقرب من نصف الفلسطينيين الذين يعيشون في غزة اليوم والبالغ عددهم 2.3 مليوني نسمة هم من الأطفال. وكثيرًا ما يتم غرس هذه الحقيقة لوصف معاناة السكان الذين لم يخرجوا أبدًا من القطاع الفقير الصغير الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتراً مربعًاً.

لكن مرة أخرى، على الرُغم من أنَّ الأرقام قد تبدو دقيقة، إلّا أنها غالبًا ما تُستخدَم لسرد جُزءٍ صغيرٍ من قصةٍ معقّدة. هذا الجيل في غزة، الذي نشأ أو وُلِدَ بعد فرض الحصار، شهد على الأقل خمس حروب مدمّرة كبرى، حيث أطفالٌ مثلهم، وأمهاتهم وآباؤهم وإخوتهم، كانوا المستهدَفين الرئيسيين وضحاياها.

كتب الجنرال والخبير العسكري والفيلسوف الصيني سون تزو في كتابه “فن الحرب”: “إذا حاصرتَ عدوك بالكامل، ولم تمنحه أي فرصة للهروب، ولا تُقدِّم له أي مكان، فسوف يقاتل حتى النهاية”.

ومع ذلك، سنة بعد سنة، هذا هو بالضبط ما فعلته إسرائيل. وقد ثبت أن هذه الاستراتيجية كانت خطأً استراتيجيًا كبيرًا.

وحتى مجرد محاولة الاحتجاج على ظلم الحصار، من خلال التجمّع بأعدادٍ كبيرة عند سياج غزة، الذي يفصل غزة المحاصَرة عن إسرائيل، لم يكن مسموحًا بها. وقد وتم الرد على الاحتجاجات الحاشدة، المعروفة باسم مسيرة العودة الكبرى، برصاصِ القناصة الإسرائيليين. وأصبحت مشاهد الشباب وهم يحملون شبانًا آخرين ينزفون ويصرخون “الله أكبر” مشهدًا منتظمًا عند السياج.

ومع زيادة عدد الضحايا، تلاشى اهتمام وسائل الإعلام بالقصة مع مرور الوقت.

مئات المقاتلين الذين عبروا إلى إسرائيل عبر أربع نقاط دخول مختلفة فجر يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانوا هؤلاء الشباب الفلسطينيين أنفسهم الذين لم يعرفوا سوى الحرب والحصار والحاجة إلى حماية بعضهم البعض. كما تعلّموا كيفية البقاء على قيد الحياة، على الرُغم من عدم وجود كل شيء في غزة، بما في ذلك المياه النظيفة والرعاية الطبية المناسبة. وهنا تتقاطع قصة هذا الجيل مع قصة “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” أو أي جماعة فلسطينية أخرى.

نعم، لقد اختارت “حماس” توقيت وطبيعة حملتها العسكرية لتتناسب مع استراتيجية دقيقة للغاية. ومع ذلك، لم تكن هذه الاستراتيجية ممكنة لو لم تترك إسرائيل لهؤلاء الشباب الفلسطينيين أي خيار آخر سوى القتال. وقد أظهرت مقاطع فيديو تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي مقاتلين فلسطينيين وهم يصرخون باللغة العربية، بلهجة غزة المميزة، القاسية في كثير من الأحيان، “هذا لأخي”، “هذا لإبني”.

لقد ردّدوا هذه العبارات وغيرها من العبارات الغاضبة أثناء إطلاق النار وسط المستوطنين والجنود الإسرائيليين المذعورين. وقد ترك هؤلاء الأخيرون مواقعهم وهربوا في مناسبات عديدة.

من المؤكد أن التأثير النفسي لهذه الحرب سيتجاوز ما حدث في تشرين الأول (أكتوبر) 1973، عندما حققت الجيوش العربية مكاسب سريعة ضد إسرائيل، وذلك بعد هجوم مفاجئ أيضًا.

وهذه المرة سوف يثبت التأثير المُدَمّر على الفكر الإسرائيلي الجماعي قدرته على تغيير قواعد اللعبة، حيث أن “الحرب” تشمل مجموعة فلسطينية واحدة، وليس جيشًا كاملًا، أو ثلاثة جيوش.

ومع ذلك، يرتبط الهجوم المفاجئ في تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ارتباطًا مباشرًا بالحرب العربية-الإسرائيلية في تشرين الأول (أكتوبر) 1973.

باختيارها الذكرى الخمسين لما يعتبره العرب انتصارًا كبيرًا على إسرائيل، أرادت المقاومة الفلسطينية أن تبعث برسالة واضحة: قضية فلسطين لا تزال قضية العرب جميعًا.

في الواقع، كانت جميع التصريحات التي أدلى بها كبار القادة العسكريين والقادة السياسيين في “حماس” مُحَمَّلة بمثل هذه الرمزية وغيرها من الإشارات إلى الدول والشعوب العربية.

ولم يكن هذا الخطاب القومي اعتباطيًا، بل برز في تصريحات القائد والمؤسس لكتائب القسام محمد ضيف، وإسماعيل هنية  رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” ونائبه صالح العاروري، ، والمتحدث باسم الحركة المقنّع الشهير أبو عبيدة.

لقد حثّوا جميعًا على الوحدة وأصرّوا على أن فلسطين ليست سوى عنصر من عناصر النضال العربي الإسلامي الأكبر من أجل العدالة والكرامة والشرف الجماعي.

وأطلقت الجماعة على حملتها اسم “طوفان الأقصى”، وبالتالي، مرة أخرى، إعادة تركيز الوحدة الفلسطينية والعربية والإسلامية حول القدس وجميع أماكنها المقدسة.

وبدا الجميع مصدومين، بما في ذلك إسرائيل نفسها، ليس من هجوم “حماس” في حد ذاته، بل من التنسيق الكبير والجرأة التي تميزت بها العملية الضخمة التي لم يسبق لها مثيل.

لذا، بدلًا من الهجوم ليلًا، هاجمت المقاومة عند الفجر. وبدلًا من ضرب إسرائيل باستخدام الأنفاق العديدة تحت غزة، فقد توجه المقاتلون ببساطة إلى هناك، ونزلوا بالمظلات، ووصلوا من طريق البحر، وفي كثيرٍ من الحالات، عبروا الحدود مشيًا على الأقدام.

وأصبح عنصر المفاجأة أكثر حيرة عندما تحدى المقاتلون الفلسطينيون أساسيات حرب العصابات: فبدلًا من خوض “حرب مناورة”، خاضوا، ولو بشكل مؤقت، “حرب مواقع”، وبالتالي صمدوا لساعات عديدة في المناطق التي سيطروا عليها داخل إسرائيل.

في الواقع، بالنسبة إلى المجموعات في غزة، كانت الحرب النفسية حاسمة مثل القتال الجسدي. فقد تمَّ بثُّ مئات من مقاطع الفيديو والصور عبر جميع قنوات التواصل الاجتماعي، كما لو كانوا يأملون في إعادة تعريف العلاقة بين الفلسطينيين، الضحية المعتادة، وإسرائيل، المحتل العسكري.

إنَّ الإصرارَ على عدم قتل المسنّين والأطفال، كما أكد مختلف القادة الميدانيين، لم يكن موجّها للفلسطينيين فقط. كانت أيضًا رسالة للجمهور الدولي مفادها أن المقاومة الفلسطينية ستلعب وفقًا للقواعد الدولية المقبولة.

بغض النظر عن عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل، أو ستقتلهم، فإن ردها الانتقامي، رُغمَ أنه مأسوي، لن ينقذ الصورة الممزّقة لجيشٍ غير منضبط، ومجتمع مُنقسم، وقيادة سياسية تُركّز فقط على بقائها.

من السابق لأوانه التوصل إلى استنتاجات شاملة بشأن نتائج هذه الحرب غير المسبوقة. لكن الأمر الواضح تمامًا هو أن العلاقة الأساسية بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين الخاضعين للاحتلال بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، من المرجح أن تتغير، وبشكلٍ دائم.

  • رمزي بارود هو صحافي أميركي من أصلٍ فلسطيني ورئيس تحرير “فلسطين كرونيكل”. وقد ألّف ستة كتب آخرها، الذي شارك في تحريره إيلان بابي، هو “رؤيتنا للتحرير: القادة والمثقفون الفلسطينيون المشاركون يتحدثون علناً”. وبارود هو زميل أبحاث كبير غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ramzybaroud.net

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى