لكِ الله يا تونس!

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

يبدو اليوم وكأن الآمور في تونس باتت  مُنفلّتة وفالتة من دون ضابط، وأن السلطة القائمة لم تعد لها سيطرة على الأحداث وما يجري في البلاد، وأن الإنخرامَ عامٌ وتام.

كل ذلك في إطار مؤسّساتٍ للحكم تبدو وكأنها فاقدة لبوصلةٍ تقود خطواتها عبر عشر سنين من التخبّط، وفي ظل تراجعِ كل المؤشّرات الإقتصادية والإجتماعية والمُجتَمعية وحتى السياسية، وإحساسٍ طاغٍ لدى ما يمكن أن يسمى بالنُخَب ـ بأن نضال عشرات من السنين لفرض الديموقراطية وحرية التعبير، لم تنتهِ إلى النتيجة المرجوة، بحيث يبدو وكأن الوضع ساء بما لا يُمكن معه إصلاحٌ، إلّا بتضحياتٍ جسيمةٍ لا يُعتَقَد أن المواطنين قادرون عليها أو تحمّل عبئها الثقيل.

فقد عمّت مطلبية كبيرة، خارجة عن كل تصوّر، بدا معها الأمر وكأن تونس بلدٌ جالس على ثروة عظيمة، حيث انفرط عقد أي نظام تأجيري. فمنذ العهد الإستعماري، وبخاصة منذ عهد الهادي نويرة، إنتظم نظامٌ تأجيري في الوظيفة العمومية، يتساوى فيه الأفراد في المرتب حسب التحصيل العلمي، ويفترقون في الإمتيازات حسب الأصناف ووضعهم في المجتمع وفي المراتب الوظيفية. ولعلّ ذلك النظام قد ضمن نوعاً من المساواة وفي الوقت عينه الحوافز لدى العاملين في الدولة.

وقد بدأ تشقّق هذا النظام المُحكَم في زمن حكومة محمد مزالي، عندما تمّ اعتماد نظام المُكَلّفين بمهمة. وكان القصد أولاً هو استيعاب وافدين من القطاع الخاص أو من الخارج،  تستفيد منهم إدارة عمومية اعتبرت مُتكَلِّسة، بتأجيرهم خارج إطار التأجير في الوظيفة العمومية بمرتبات أعلى مما تخوّلهم شهاداتهم وبصفر من الأقدمية. ثم امتد مفعول المُكَلَّفين بمهمة حتى إلى موظفين عموميين  يُرادُ لهم أن ينالوا أجوراً أعلى، حيث مُنحوا المقاييس التي يتمتع بها المنتسبون للوظيفة العمومية عادة، وكُلِّفوا ” بمهمات”  تُخوّل لهم مرتبات أعلى مما كانوا ينالون بحكم وظيفتهم وأقدميتهم،  والمقاييس المُعتَمدة بالنسبة إليهم.

غير أن الفوضى دخلت بحق بعد “الثورة” وإزاء مطلبية مفرطة لدى بعض قطاعات الوظيفة العمومية. قطاعاتٌ تعتمد مطلبية عالية وتملك بين يديها أسلحة قوية، فانخرم الوضع، وانتفت المساواة في الأجر الأصلي، وانتفخت المنح الخصوصية  للبعض دون البعض  الآخر. وفازت القطاعات التي لها قوة ضغط كبرى، وتكاثرت الإعتصامات، واستسلمت الحكومات المُتعاقبة، بدايةً من حكومة الباجي قائد السبسي الأولى سنة 2011، فانفجر نظام التأجير في الوظيفة العمومية، وانخرمت المبادئ “المساواتية” التي قام عليها منذ السبعينات الفائتة بجهدٍ كبير من الوزيرين محمد الناصر، ومنصف بن الحاج عمر.

 أضف إلى ذلك خلاص أيام العمل المهدورة أيام الاضرابات، فيما القاعدة العامة، أكانت تونسياً أو دولياً، هي الأجر مقابل العمل المُنجَز. وبما أن الدولة، وحتى أعدادٌ من رجال أعمال القطاع الخاص، يعمدون للإقتطاع مباشرة من المرتبات لحساب الإتحاد العام التونسي للشغل، بحيث أصبح هذا الإتحاد مع اتحاد الصناعة والتجارة، أغنى وأقوى المؤسسات، في دولة كل مؤسساتها العمومية مفلسة. وبدون استثناء، فإن اتحاد الشغل له قدرة كبيرة لخلاص ودفع أيام إضراب أعداد من العاملين في القطاع الخاص، إضافة إلى صرف مرتبات المُضربين  كاملة في الوظيفة العمومية والمؤسسات المفلسة، أقصد المؤسسات العمومية، كما في حال عدم تولّي الأعراف دفع تلك الأجور، أي إن الدولة والكثير من الأعراف يشجعون الإضراب سواء كان شرعياً قانونياً أم لا.

لقد انفلت الأمر عن كل سيطرة. في بداية الثورة، سادت كلمتا “إرحل ديقاج” لأعداد كبيرة من مُسيِّري المؤسسات الادارية والإقتصادية، من المشهود لهم بالكفاءة، وممن كانوا يمسكون بمؤسساتهم بيد تجعلها تتولى القيام بعملها بكل انضباط. وبما أن الحكومة استجابت وقتها، وعيّنت مسؤولين جدداً، تعلّموا بالتجربة أن عليهم أن يُلبّوا كل الطلبات، ويتركوا الإنضباط الواجب وراء ظهورهم للبقاء في مناصبهم. ومن هنا جاءت كوارث عديدة، فانحدرت مؤسسات كثيرة بعدما كانت تدرّ على الدولة أموالاً طائلة، وحلّ الخراب، وهناك من يقول اليوم إن كل المؤسسات العمومية ترزح تحت عبء مديونية ثقيلة، وأنها تدفع أجور أعوانها من موازنة الدولة، ومن الإقتراض إن كان ما زال ممكناً، وتزيد دورياً في المرتبات، حيث بلغت معه نسبة كتلة الأجور 20  في المئة من الناتج المحلي الخام، وما بين 30  و40 في المئة من مقدرات الموازنة العامة، وهي أرقام لا تستقيم أمور أي دولة إلّا بنصفها. أما عن أعداد العاملين في الوظيفة العمومية والمؤسسات التابعة للدولة بما فيها مؤسسسات البستنة والبيئة التي تدفع “أجوراً” من دون حتى  مجرد حضور. أما عن ذلك فحدّث ولا حرج، ففي سنتي 2012 و2013  أيام حكم النهضة، فقد تم ملء الوظيفة العمومية بعشرات الألوف من الوافدين الجدد غالبيتهم العظمى من النهضاويين،  وأسندت لهم منح تعويض عن سنوات لم يعملوا فيها، ما زاد بشكل لافت وكبير في كتلة الأجور ذينك العامين بصفة كبيرة، ورفع نسبة النمو بنقطتين، يفخر بها لليوم حزب حركة النهضة، من دون ذكر أن نسبة النمو عند الحديث عنها لا يمكن إغفال تركيبتها.

من هنا نحن اليوم في هذا الوضع من الانفلات الكبير بدون روادع، وهو وضعٌ لا يُمكن ضبطه إلّا بحكٍم قوي، لا يتوفر لحكومة مثل حكومة المسكين الإداري هشام المشيشي، ولا لرئيس تكتفي نظريته بمقولة ” الشعب يريد”، وهذا ما يشبه اللجان الشعبية في ليبيا  البائدة.

كل هذا يذكرنا بما آلت إليه الجمهورية الرابعة في فرنسا سنة 1958، بعد اثنتي عشرة سنة من الوجود الكارثي،  انحدرت معه فرنسا انحداراً كبيراً، حتى جاء الجنرال شارل ديغول لتستقيم الأمور، ويفرض قيام جمهورية خامسة بحكم قوي حازم. ولكن كيف لنا بمثيل للجنرال ديغول؟ وكيف لنا بظروفٍ مواتية لذلك، بدون أحداث وتطورات غير ديموقراطية، مثل تلك التي دفعت الجنرال ديغول إلى مقدمة خشبة  المسرح؟

كل شيء يشير إلى أن الأمور آخذة في الإنفلات من كل سيطرة، إن لم تكن انفلتت أصلاً؟

لكِ الله يا تونس …

  • عبد اللطيف الفراتي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي تونسي مخضرم. كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية ومراسلاً لصحف ومجلات عربية عدة. يُمكن التواصل معه عبر لريده الإلكتروني التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى