مَخاطِرُ التَدَخُّلِ الفرنسي في الحَربِ الروسِيَّة-الأوكرانِيَّة

السفير يوسف صَدَقة*

فَشِلَ الهجومُ الأوكراني المُضاد لاستعادةِ الأراضي المُحتَلّة من قبل روسيا، بعد الاجتياح العسكري الذي أطلقته الأخيرة في 22 شباط (فبراير) 2022. بعدَ سنتَين من الحرب، سادت البلبلة والتأزّم على الجبهة الأوكرانية بعد الهجوم الروسي الأخير في منطقة دونتِسك. ويبدو أنَّ الجيشَ الأوكراني لم يعد قادرًا على التصدّي للقوات الروسية. وقد أدّى هذا الوضع الخطير على الجبهة إلى تصاعُدِ القلق في العواصم الاوروبية من الاختراقات الروسية على الجبهة الأوكرانية. وتخوّفَّ البعض من إمكانية لجوءِ الرئيس فلاديمير بوتين إلى مهاجمة بعض البلدان الاوروبية، والتي يتكلّم جُزءٌ من سكانها اللغة الروسية والذين تعدّهم روسيا من مواطنيها، خصوصًا في دول البلطيق. كما يزدادُ القلق الأوروبي من احتمالِ وصولِ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الابيض وما يمثّله ذلك على مسار الحرب في أوكرانيا والأمن الأوروبي. إزاء هذا الوضع الخطير تنادت دولٌ اوروبية عدة إلى التخطيط لإرسالِ قواتٍ عسكرية إلى أوكرانيا خوفًا من الانتصار الروسي. فالدولُ الأوروبية عجزت في الماضي عن القيامِ  بأيِّ رَدِّ فعلٍ عملي إزاءَ الهجومِ الروسي على جورجيا في العام 2008 ، وكذلك عند ضَمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014 .

موقف البابا فرنسيس

زاد من القلق الاوروبي نداء البابا فرنسيس عبر التلفزيون السويسري “RTS” ، حيثُ دعا “السلطات الأوكرانية إلى عَدَمِ الخَجَلِ من التفاوُض، فالمسؤولُ القوي هو الذي ينظُرُ بحكمةٍ إلى الأوضاع، ويتحسّسُ آلامَ شعبه، ويملكُ الشجاعة لرَفعِ العَلَمِ الأبيض، أي التفاوض حيث يمكن إجراء ذلك بحضور المجتمع الدولي. فالتفاوضُ يُمثّلُ الشجاعة، وعندما نرى أننا مهزومون والأحوال تزيد سوءًا، علينا أن تكونَ لدينا الشجاعة لإجراء المفاوضات”.

وقد أفادت مصادر ديبلوماسية أنَّ البابا كان تلقّى تقارير من الأساقفة الكاثوليك في غرب أوكرانيا، لا سيما من مدن “لفيف” (LVIV)، “إيفانوف” (IVANO)، “فرانكيف” (FRANKIV) “تيرنوبيل” (TERNOPIL) “أوزغوراد” (UZGORAD) و”ميلنيتسكي” (KMELNYTSKY)، تتضمّن حجمَ الأضرار البشرية والمادية الكبيرة التي تكبّدتها هذه المناطق بشكلٍ خاص، والمناطق الأوكرانية الأُخرى بشكلٍ عام، وهذا ما دفعه إلى إطلاقِ النداء.

تجدُرُ الإشارة إلى أنَّ الرئيسَ الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد أقرَّ قانونًا صادرًا عن البرلمان الأوكراني ( VERKHOVNE- RADA) يمنع التفاوض مع روسيا، وهو قانون خارج عن إطار القوانين الدولية، وهو يمثل تجاوز مفاهيم العلاقات الدولية والأمم المتحدة، لأنَّ التفاوُضَ هو الأداةُ السياسية الرئيسة لحَلِّ النزاعات الدولية في ميثاق الأمم المتحدة.

الموقف الفرنسي

نتيجةً لتطوّرِ الأحداث في أوكرانيا، والخسائر الكبيرة التي مُنِيَ بها الجيش الأوكراني في الأرواح والمعدّات، حذّرَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من تداعيات الحرب الأوكرانية–الروسية، حيث استعمل في لقائه مع الصحافيين على التلفزة الفرنسية مهارته الديبلوماسية العالية، إذ لم يستبعد إرسالَ قواتٍ عسكرية فرنسية إلى الأراضي الأوكرانية وذلك باعتباره القائد العام للجيوش الفرنسية. واعتبرَ أنَّ كلَّ شيءٍ مُمكِنٌ للوصول إلى الهدف المطلوب. وقالَ بأنَّ روسيا تُمثّلُ الخصم وليس العدو، وفتحَ البابَ الضيّق لإمكانيةِ الحديث مع الرئيس الروسي، متى توفّرت الظروف الموضوعية للحوار. واعتبر أنَّ الخطر على أوروبا وفرنسا قائمٌ حيث أن مدينة ستراسبورغ الفرنسية تبعد 1500 كلم عن مدينة لفيف الأوكرانية.

وقد واجه تصريح الرئيس ماكرون معارضةً شرسة من المعارضة الفرنسية، التي اعتبرت أنَّ ماكرون يُزايدُ في التهديدات قبل إجراء انتخابات البرلمان الاوروبي المقرر اجراؤها في 9 حزيران (يونيو) المقبل، وأنه كان من أكثر الرؤساء الأوروبيين مسايرةً للرئيس الروسي بوتين. وقد تابع ماكرون تحذيره من براغ ، قائلًا بأنه “على الأوروبيين ألّا يكونوا جبناء إزاء الهجوم الروسي الخطير على الاراضي الأوكرانية”.

وقد ردّ الرئيس ماكرون على المعارضة قائلً : “إنَّ استسلامَ أوكرانيا لن يؤمّن الأمن لفرنسا، وأنَّ ما يجري في أوكراتيا يُحدّد مصير أوروبا”. وقد أدّت تصريحات الرئيس ماكرون إلى استياء رئيس الوزراء الإلماني أولاف شولتز الذي عارض إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا.

إزاء موقف شولتز قام الرئيس الفرنسي بزيارةٍ إلى ألمانيا لنزع فتيل الاحتقان في العلاقات الإلمانية-الفرنسية،  حيث انضمّ إليهما رئيس الوزراء البولوني دونالد توسك، وقد تم الاتفاق في القمة الثلاثية على دعم أوكرانيا عبر شراءِ الأسلحة من خارج اوروبا، وتزويد الجيش الأوكراني بالقذائف المدفعية من مختلف العيارات، وقد اعتبر المستشار الألماني إنه من الضروري قيام تحالف لدعم أوكرانيا بالأسلحة الثقيلة وبالذخائر المناسبة. كما أشارَ إلى أن ألمانيا ترى أنه من غير المناسب إرسال صواريخ “طوروس” (TAURUS) إلى أوكرانيا، وهي قادرة على ضرب العمق الروسي.

بعد عودته إلى باريس بعد القمة الثلاثية، أشار ماكرون في حديثه إلى جريدة “لوباريزيان” ( LE PARISIEN) الفرنسية أنه يتفهَّم الموقف الألماني ، فالحزب الديموقراطي الاجتماعي الألماني الذي يرأسه شولتز هو حزبٌ يعتنقُ مبدأ السلم في العلاقات الدولية، وأنَّ هناك اختلافًا في الثقافة الاستراتيجية بين البلدين. ففي فرنسا يعتبر رئيس الجمهورية هو الضامن للأمن الوطني، فيما في المانيا يمثل البرلمان الدور الأساس في مسألة الأمن والسلم الدوليين.

الاتفاقية الأمنية الفرنسية-الأوكرانية

أحالت أخيرًا الحكومة الفرنسية على البرلمان مشروع اتفاقية أمنية مع أوكرانيا، الذي سبب خلافات بين الكتل البرلمانية، حول مبدَإِ التدخّل العسكري المباشر في أوكرانيا. وقد تمت الموافقة على الاتفاقية، التي عارضها كلٌّ من كتلة الزعيم اليساري جاك لوك ميلونشون والشيوعيين، وقد امتنع التجمّع الوطني برئاسة مارين لوين عن التصويت، وذلك في الجلسة المنعقدة بتاريخ 16/3/2024. وقد اعتبر رئيس الوزراء الفرنسي غبريال أتال أن “عدم التصويت هو التهرّب من المسؤولية أمام التاريخ وإزاء التزاماتنا المعنوية تجاه أوكرانيا”.

وقد نصت هذه الاتفاقية على مدة زمنية لمدة عشر سنين، كما تضمّنت دعمًا عسكريًا لأوكرانيا في العام 2024 بمبلغ 3 مليارات دولار.

في المحصلة النهائية فإنَّ الرئيس ماكرون، حاول في موقفه الصلب من روسيا، أن يكونَ القائد الأوروبي الأوّل الذي يُطلِقُ الصرخة لدعم أوكرانيا، ويُحرّك العواصم الأوروبية من أجلِ الدعم العسكري لأوكرانيا وتحذير روسيا من التمادي في احتلال أراضٍ أوكرانية جديدة.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ فرنسا تدعم أوكرانيا عسكريًا في مجال المدفعية الثقيلة ولا سيما مدافع “سيزار” التي تُطلق قذائف عدة في الدقيقة، وقطع مدفعية وصواريخ متوسطة المدى وفي المجالَين المخابراتي والأمن السيبراني. فموقف ماكرون سيؤدي إلى مزيدٍ من التأزّم في العلاقات الفرنسية–الروسية. ولن يصل في تقديرنا إلى حافة الهاوية، فالاقتصاد الفرنسي يعاني من عجزٍ كبير، وقد بلغت الديون الفرنسية أكثر من 1500 مليار دولار. على صعيدٍ آخر فإنَّ التدخّلَ العسكري في أوكرانيا يلقى معارضة كبيرة من الكتل النيابية ومن غالبية الشعب الفرنسي.

يبقى انه يتوجّب على دول الاتحاد الاوروبي مع واشنطن العمل مع طرفيّ النزاع لإنجاز حلول وسطيّة تبدأ بوقف إطلاق النار، ومن ثم إطلاق المفاوضات وذلك لتعذّر الحلّ العسكري، رُغم الدعم الغربي لأوكرانيا.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني مُتقاعد. كان سابقًا سفيرًا للبنان في أوكرانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى