لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (18): حِوارُ “رَقصَةِ الدَرَاويش”

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

في 31 من آب (أُغسطس) 2023، خلال خطبته في الذكرى الخامسة والأربعين لتغييب الإمام موسى الصدر، جَدّدَ رئيس مجلس النوّاب نبيه بري الدعوةَ إلى حوارٍ بشأنِ رئاسةِ الجمهورية، فلم يُوَفَّق، وهو في الأصل، دعا إلى طاولةِ الحوار من قَبيلِ “رَفعِ العَتَب”، ليسَ إلّاَ، لأنّهُ يَعرِفُ عدم جدواها، قياسًا على محاولاتِ الحوارِ السابقة مُنذُ تشكيلِ “هيئة الحوار الوطني” في أيام الحكومة التاسعة للرئيس الراحل رشيد كرامي في بداية الحرب الأهلية (وكان فيها كميل شمعون نائبًا للرئيس)، فلم تَستَطِع تلك الهيئة أن تَعقُدَ سوى جلسةٍ واحدةٍ يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1975، لأنَّ أمراءَ الحرب، الحاكمين اليوم، أشعلوا جبهاتَ القتالِ خصّيصًا لإحباطِ الحوارِ الوطني. وكانت تلك الهيئة تضمّ: رشيد كرامي، كميل شمعون، عبد الله اليافي، صائب سلام، مجيد أرسلان، فيليب تقلا، غسان تويني، كمال جنبلاط، بيار الجميل، ريمون اده، رينه معوض، خاتشيك بابيكيان، رضا وحيد، الياس سابا، عباس خلف، نجيب قرانوح، إدمون رباط، عاصم قانصو، وحسين عواضة.

ثم غابَ الحوارُ الوطني لسنوات، إلى أن انعَقَدَ مرّتين خارج لبنان (في سويسرا، الأول في جنيف في 1983، والثاني في لوزان في 1984)، وأيضًا من دونِ نتيجة.

بَعدَ ذلكَ انعَقَدَت الحكومة في عهد الرئيس أمين الجميل عام 1986 كهيئةِ حوار، من غيرِ أيِّ نتيجة أيضًا. وكذلك الأمر عندما دعا نبيه بري إلى طاولةِ حوارٍ عام 2005، (حضرها السيد حسن نصر الله في جلساتها الأولى قبل الحرب مع إسرائيل في العام 2006).

ففي هذا المُسلسلِ من الإخفاقاتِ في الحوارِ الداخلي اللبناني، كانَ لا بدَّ من كَسرِ الدوران في الحلقة المُفرَغة، شأن “رقصة الدراويش”، بتدخُّلٍ من الخارج، وهو ما حدث فعلًا في مؤتمر الطائف. وكانت فرنسا، بعد الحرب الأهلية الأولى التي جرت عام 1843 بين الدروز والموارنة، وأدَّت الى “نظام القائمقاميتين”، قد أعطيت أرجحية في النفوذ الدولي في جبل لبنان، ظهر من خلال تكليفها تشكيل نصف عديد القوة الدولية الحافظة للأمن هناك.

ولهذا كانت فرنسا في الحرب الأهلية الثانية، الأوسع نطاقًا، في جبل لبنان (1860-1864)، هي القوة الدافعة للتدخّل في لبنان وسوريا تحت عنوان “الأسباب الإنسانية”. ولهذه التسمية أسبابها، وقد ظهرت لأوّلِ مرة في النقاشات الفكرية الأوروبية حولَ وُجوبِ أو عدم وجوبِ التدخّلِ الخارجي، ولم تكن “الأسباب الإنسانية” تلك، مِحوَرًا من محاورِ النقاشاتِ بهذا الشأن. مما يدلُّ على أنَّ تلك الحرب في جبل لبنان لم تكن حربًا بالمعنى التقليدي، بل مُسَلسَلًا من المجازِرِ الجماعية وعمليات التهجير، تمامًا كما حدث في حرب الجبل (1983-1984).

وعلى الرُغمِ من المصالحة الشكلية التي أجراها البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله صفير مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في مطلع الألفية الثالثة، تُضافُ إليها الأموال الطائلة التي هُدِرَت في “صندوق المُهَجَّرين”، فإنَّ مُعظمَ الذين تضرّروا من تلك الحرب لم يعودوا إلى قراهم، وهو مؤشرٌ مهمٌّ إلى الشعورِ بأنَّ الحربَ الأهلية لم تنتهِ فصولُها بَعَد.

التدخُّلُ الدولي في لبنان في القرن التاسع عشر، سبقته في ثلاثينيات ذلك القرن نقاشاتٌ فكرية أوروبية حوله تحت عنوان “الأسباب الإنسانية”، لم يشارك فيها أيٌّ من المفكّرين الفرنسيين في حينه، وكانَ من أقطابِ ذلك الحوار المُفكّرُ الإيطالي جوزيبي مازيني، الداعي إلى وحدةِ إيطاليا في ذلك الوقت، والمُفَكّر البريطاني جون ستيوارت ميل. لذلك، كان ملفتًا إناطة قيادة التدخّل الدولي في لبنان آنذاك بقوّاتٍ فرنسية بالدرجة الأولى.

لكنَّ النقاشَ حولَ التدخّلِ الخارجي بصورةٍ عامة (أي من غير اعتبارٍ للأسباب الإنسانية)، فقد انطلقَ في فرنسا خلال الثورة الفرنسية، ومرَّ بعدها بثلاثِ مراحل، أوّلها خلال الثورة برَفضِ التدخّلِ في شؤونِ الدول الأخرى، وثانيها ضرورة التدخّل في حال تعرّضِ أمن فرنسا ومصالحها للخطر، وثالثها التدخّل لمُساندة حركاتِ التحرّرِ للبلدان المُحتَلّة من دولٍ اُخرى. وقد فَلسَفَ هذه المبادئ في النصف الأول من القرن التاسع عشر ثلاثةٌ من كبارِ الكتّابِ والمُفكّرين الذين توَلّوا منصب وزير الخارجية في حكوماتِ زمانهم، وهم: فرانسوا رينيه دو شاتوبريان (المعروف بالفيكونت دو شاتوبريان)، ومن بعده المؤرّخ فرانسوا غيزو، ثم الكاتب والشاعر ألفونس دو لامارتين (بعد ثورة 1848).

ولم تكن “الأسبابُ الإنسانية” ضِمنَ التوجّهاتِ الفرنسية في تلك المرحلة، لكنَّ الحكومة الفرنسية برَّرت تدخّلها في الحرب الأهلية اللبنانية الأولى في ستينيات القرن التاسع عشر تحت هذا العنوان. ومُنذُ ذلك الوقت أصبحت فرنسا هي المُحرّكَ الأوّل للتدخّلِ الدولي في المسألة اللبنانية، وما زالت…

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: ferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى