المَوقِفُ الصِّيني مِن أزمَةِ أوكرانيا: حَقائقٌ وتَقديراتٌ مَبتورَة

البروفسور بيار الخوري*

طبيعيٌ أن يكونَ موقفُ الصين من الأزمة الروسية-الأوكرانية مَوضِعَ اهتمامِ الدول و صنّاع السياسات والمُحلّلين، ليس فقط لأن الصين هي حليفة وصديقة لروسيا، بل والأهمّ بسبب الدور الدولي المُتعاظِم الذي تلعبه جمهورية الصين الشعبية، خصوصًا بعد إطلاق الزعيم الصيني شي جين بينغ مبادرة الحزام والطريق في العام ٢٠١٣.

تملكُ الصين اليوم ثاني أكبر اقتصادٍ في العالم، وهو في الواقع أكبر اقتصادٍ إذا كان مُحتَسبًا تبعًا لنظريةِ تَعادُل القوّة الشرائية. والصين هي الشريك التجاري الأوّل لمعظم دول العالم، حيث باتت لديها سلسلة تحالفاتٍ اقتصادية مَتينة تمتدُّ من آسيا إلى أفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية.

كما إن الصين تتمتّع بعلاقاتٍ ودّية مع كافةِ دول المعمورة، طبعًا باستثناء الولايات المتحدة بعد تصعيد النزاع التجاري والعقوبات التي فرضها الرئيس دونالد ترامب واستبقاها خليفته الرئيس جو بايدن.

لقد تراوحت مروحة تفسير الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية على أطرافِ اتجاهَين مُتناقضَين. أولٌ يفترض أن الصين تُحالف روسيا في السرّاء والضراء، وهو موقفٌ له خلفيته المنطقية كونهما دولتين تُعانيان من تسلّط الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي كما على حلف شمال الأطلسي (الناتو) والعديد من الدول التي ترتبط مصالحها بنسب مختلفة بالدولة العظمى. وثانٍ على الجانب الآخر يميلُ معه المُحَلِّلون إلى تفسير الموقف الديبلوماسي الامتناعي للصين بطريقةٍ نفعية، أي أنه يتبع رغبةً تجارية لدى الدولة الآسيوية الكبرى في عدم استفزاز شركائها الأوروبيين في هذه الأزمة. وهذا الموقف هو أيضًا على جانب من الصحة كون الصين قد بنت على مدى أربعين عامًا أكبر شبكة علاقات اقتصادية مع دول العالم، وهي الدولة التي تتحكّم بسلاسل التوريد عبر العالم، وأوروبا هي في وسط هذه السلاسل، كما هي السوق الرئيسة للمنتج النهائي لهذه السلاسل.

هذان الإتجاهان أعلاه اللذان تمّ تسويقهما الكثير من الصحة، ولكن أبضًا الكثير من عدم فهم حقيقة كيف تُفكّر القيادة الصينية، ورُغم إني أكتبُ هنا على مسؤوليتي كمُتابع وكاتب، فإني على دراية معقولة بالأخلاق السياسية للدولة الصينية.

أوّلًا: بما خصَّ أوكرانيا، تنظر الصين إلى هذه الدولة تمامًا كما تنظر إلى كافةِ دول العالم، كبيرةً كانت أم صغيرة، إستنادًا إلى مبدإِ عدم التدخّل في شؤون الدول الأُخرى وحقّ الحكومات في تقرير مصائر بلدانها، بغض النظر عن موقف القيادة الصينية من هذه الأنظمة ومن سياساتها. هذه المُقاربة الصينية للموقف من الدول الأُخرى هي مربط الخيل في نجاح الديبلوماسية الصينية الناعمة عبر العالم. هنا في العالم العربي هناك مَيلٌ لعدم فهم حقيقة ما يُسمّى الإزدواجية الصينية تجاه قضية فلسطين، فالديبلوماسية الصينية لا زالت حتى اليوم الأكثر وضوحًا والأكثر تشبّثًا في دعم الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على أرض فلسطين، وفي الوقت نفسه تُقيم الصين علاقاتٍ اقتصادية وثيقة مع الدولة العبرية بما في ذلك المشاركة في المشروعات الكبرى والقطاعات الاستراتيجية. في الواقع تجمع الصين الموقفَين المَرجَعِيين معًا هنا: عدم التدخّل في سياسات الدول رُغم الاختلاف إلى حدّ التناقض في السياسات والاستراتيجيات وفقاً لمبدإِ عدم التدخّل، وطالما الدولة المذكورة ذات عضوية في منظمة الأمم المتحدة، ولكنها أيضًا تتمسّك بالحقّ التاريخي والسياسي والأخلاقي لفلسطين وشعبها من خلال قدرتها على التأثير في المنابر الدولية والتسويات الدولية من أجل المساهمة الفعّالة في استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

ثانيًا: الصين هي حليفة لروسيا علنًا وفي وضح النهار، وهذا ليس بحاجة إلى تأويلٍ، ونقاطع المصالح الاستراتيجية بين الدولتين لا يحتاج إلى إثبات. كما إن سعيَ الولايات المتحدة إلى تشذيب قوّة هاتين الدولتين ضمن الاستراتيجية الأميركية المكتوبة هو أمرٌ لا يحتاج إلى أدِلّة أو دلالة. يقوم هذا التحالف رُغمَ أن الصين لا ترتاح لأيِّ نزعةٍ إمبراطورية حتى لو كانت احتمالية، فروسيا بنسختيها السابقتين القيصرية والسوفياتية قد أبدت نزعة السيطرة الإقليمية ذات الطابع الإمبراطوري. لم يخرج عن هذه النزعة سوى قائد ثورة البلاشفة فلاديمير لينين خلال فترة حكمه القصيرة. من بطرس الأكبر الى كاترين الثانية إلى جوزيف ستالين، عبّرت روسيا عن نزعةٍ إمبراطورية قوية. بعض هذه النزعة كان يطال الصين من منشوريا الخارجية وعبر التحرّش بالصين وإثارة القلاقل في جمهورية شيجيانغ. من جهتها تُقدِّر الصين أن الوضع الدولي الحالي وتراجع قوة روسيا في محيطها، كما تراجع قوة اقتصادها مُقارنةً بالاتحاد السوفياتي السابق، لا يسمح لهكذا خطر أن يكون جُزءًا من الحسابات الاستراتيجية تجاه الروس، ويوجد تقديرٌ أن استراتيجية الروس بعد الاتحاد السوفياتي تنحى باتجاه النمو الاقتصادي والتكنولوجي وفتح أسواقٍ للطاقة والسلاح لا شراء الحروب رُغم أزمة أوكرانيا.

ثالثًا: هناك افتراضٌ ضمني أيضًا في تحليل الموقف الصيني هو أن بكين تخافُ على علاقاتها التجارية وعلى تراجع تجارتها الدولية وفوزها القوي في الاقتصاد العالمي، لذلك فهي لا تريد خلق تناقضات مُحرجة للاتحاد الاوروبي بالمواقف الأكثر ميلًا إلى روسيا. الواقع أن هذه الفرضية لا تلتفت إلى أن للصين علاقات بكافة الدول بما فيها الاتحاد الاوروبي، وأن هذه العلاقات قائمة على مبدإِ المصلحة المُتبادَلة بين الدول والتكتلات وبين الصين. لا يُمكنُ لأحدٍ أن يَفتَرِضَ أنَّ أيَّ ضررٍ يلحقُ بهذه العلاقات سوف يعود بالأذيّة على الصين بمفردها، بل ربما سيعود بالضرر أكثر على الاتحاد الاوروبي والاقتصاد الدولي، وهذا ما أثبتته في أيِّ حال أزمة سلاسل التوريد وما جنت به الإدارة الأميركية السابقة على العالم من خلال العقوبات على مناطق حسّاسة جدًا في هذه السلاسل طالت الصين أو طالت علاقة السلاسل الصينية بمجموعات مختلفة من نقاط وصل هذه السلاسل.

رابعًا: يؤكد الموقف الصيني على حقِّ روسيا في الحصول على ضماناتٍ لأمنها الاستراتيجي، وعدم تعرّضِ الغرب لهذا الأمن الذي هو حقٌّ في بناء سياسات الدول وضمان أمنها في المدى البعيد. الصين ذاتها تعاني من محاولات هذا التدخّل أوّلًا عبر الحماية لتايوان والخوف من تحويلها يومًا ما إلى قضية أميركية تمامًا كما تمّ تحريض أوكرانيا منذ العام 2014. وثانيًا التدخّل الاستفزازي للولايات المتحدة وحلفائها في بحر الصين الجنوبي على أبواب البر الرئيس، بالإضافة لتشجيع بعض المجموعات في هونغ كونغ على عدم اعتبار أنفسهم جُزء من الدولة الصينية وافتراض أن الوضع الذي رتّبته المملكة المتحدة يجب أن يبقى قائمًا حتى بعد عودة الجزيرة الى الوطن الأم.  كل ذلك يدفع الصين إلى موقفٍ لا يُوصَف بالوسطي ولكن مبني على احترام الحقوق الأمنية لروسيا وفي الوقت عينه إحترام حرية الدول في اختيار سياساتها. بمعنى آخر، فإن الصين تقول لأوكرانيا لا تستفزِّي روسيا لكي لا تصل روسيا إلى ما وصلت إليه، فنحنُ لا نُريدُ أن نرى لا روسيا ولا غيرها في مثل هذا الوضع.

خامسًا: ترغب الصين في لعب دور الوسيط القوي في الأزمة الأوكرانية، ولكنها تُشيرُ دائمًا إلى أنّ الطريقة التي يتعامل بها الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، مع الأزمه الأوكرانية لا تسمح بهذا النوع من التدخّل. ففي حين يحثُّ الغرب الصين على الضغط على روسيا فهو يمسك خرطومًا من البنزين ويقول إنه يُحاول إطفاء الأزمة، وهو في الواقع يزيد من نيرانها. تُراهنُ الصين على أنها بموقفها المبدئي من هذه الازمة المُعقّدة سوف تكون قادرة في لحظة ما من تطور الصراع لتُقدِّم ديبلوماسيتها بناءً على علاقاتها الجيدة مع أوروبا، وحاجة الولايات المتحدة إليها، وعلاقاتها التحالفية مع روسيا، لكي تلعب دور الوسيط القوي القادر على تأمين حضور مصالح الجميع على طاولة أوروبية-آسيوية-أميركية، تمنع انزلاق العالم نحو تزايد الحروب التجارية وتداعي الاقتصاد العالمي في لحظةٍ حرجة تحتاج دفعًا قويًّا للنمو الاقتصادي.

تعتبر الصين أن سياسة العقوبات لا تفعل سوى الضرر بالاقتصاد العالمي برمّته، وقد حان الوقت للغرب ان يقلع عن هذه الطريقة بالمعاقبة، فهو كمن يطلق النار على رجليه. الأزمة لا زالت طويلة، وهي فتحت تناقضًا جديدًا في العلاقات الدولية لا يمكن حله بجلوس الروس والأوكرانيين وموافقة الأخيرين على نزع تسلّحهم والالتزام بعدم الدخول إلى حلف الناتو. ستنتهي هذه الأزمة على طاولة كبيرة، وهذا يحتاج دوما إلى الوقت، وإلى اعترافٍ أميركي بأنَّ العالمَ قد بات عصيًّا على الإدارة من عاصمةٍ واحدة.

  • البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الاقتصاد السياسي. وهو نائب رئيس الجمعية العربية-الصينية. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: info@pierrekhoury.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى