لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستدامة (4): حُكمُ الثلاثين طاغِية

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعاً شائكاً يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرة لحروب أهلية متواصلة منذ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحو مقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحاً لحروب أهلية مستدامة، وبأشكال مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرق أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظراً لارتباط بعض المكونات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

إذا ألقينا نظرةً عابرةً على الحروب الأهلية الكُبرى عبر التاريخ، نَجِدُ أنَّ الحربَ اللبنانية كانت من أطولها وأعقدها. فلنأخُذ على سبيل المثال “حرب بيلوبينيز” الإغريقية التي وقعت بين أعظم حالة ديموقراطية في العالم القديم، (431 ق. م-404 ق. م)، وهي أثينا، وبين سبارتا، وهي ذات حكمٍ أوليغارشي مُستَبِد، حيث كانت الغلبة في البداية لأثينا الديموقراطية لولا التدخّل الفارسي من الخارج، الذي رَجّحَ كفّة سبارتا واطاح الديموقراطية الأثينية، وفَرَضَ على أثينا حُكمًا أوليغارشيًا من ثلاثين رجلًا (بما يشبه الحالة اللبنانية الراهنة بعد الطائف) سُمِّي “حكم الثلاثين طاغية”.

وقد كَتَبَ تفاصيلُ هذه الحرب، في أوّلِ كتابِ تاريخٍ علميٍّ مُفَصَّلٍ ومُوَثَّق، المؤرّخ الإغريقي الكبير ثوكيديدس الذي قال في مقدمته: “إنني أكتبُ هذا الكتاب لجميع الأزمنة”. وهو كذلك.

بعد هذا التحوُّل، ضربَ الفقرُ والمجاعةُ والانحلالُ بلادَ الإغريق كلها، وآلت الأمورُ الى السفلة والأوغاد.

فعندما يجري تطويعُ الحالةِ الديموقراطية البرلمانية على هذا النحو، كما حَدثَ في مؤتمر الطائف بشأن الحرب اللبنانية، فإنَّ مآلَ الأمورِ بعد ذلك يُصبِحُ معروفًا إلّاَ للذين ينظرون ولا يُبصِرون، ويسمعون ولا يفقهون.

لقد سقتُ هذا المثال لأنَّ الحربَ اللبنانية الحديثة والحربَ الإغريقية القديمة مُتشابهتان في إطالةِ أمَدِ الحرب، وفي التدخّل الخارجي، وفي المناخ السياسي.

لكن المهزلة البرلمانية التي أوصلت لبنان الى “اتفاق الطائف”، ومن ثمَّ إلى الوضع الراهن، هي الجديرة بالبحث، لتأكيد عدم شرعية الوضع القائم الذي يشبه “حكم الثلاثين طاغية” في أثينا بعد التدخّل الفارسي في الحرب الإغريقية.

أوّلًا، ما كانَ يجوزُ لمجلسٍ تشريعي وطني أن يجتمعَ في خارج بلاده لتقريرٍ أمرٍ داخلي.

ثانيًا، ذاك المجلس نفسه كان فاقدًا للشرعية لأنه غير مُنتَخَب، وقد مدَّد لنفسه نحو عشرين سنة، اي أكثر من أربعِ دوراتٍ انتخابية. فكلُّ ما صَدَرَ عن ذلك البرلمان الذي انتهت مدّته الدستورية في العام 1976، هو غير قانوني وغير شرعي بعد انتهاء ولايته الدستورية في ذلك التاريخ.

فكلُّ تشريعٍ صدرَ عن مجلسٍ نيابي بعد انتهاء ولايته الدستورية الطبيعية، بما في ذلك انتخاب الرؤساء، والقوانين، و”اتفاق الطائف” نفسه، هو تشريعٌ باطلٌ ولو تمَّ التوافقُ عليه بين جميع أمم الأرض. هذا ليس تشريعًا أو انتخابًا، بل هو فُرِضَ بالقوّة القاهرة التي لا تُقيمُ وزنًا للإرادة الوطنية. ولذلك بقيت هذه المهزلة البرلمانية سارية إلى اليوم، من التمديدِ للمجلس النيابي نفسه، إلى التمديد لرؤساء الجمهورية، بما في ذلك انتخاب بعضهم خلافًا للدستور.

ولذلك لا يجوز القول بأنَّ النظامَ القائم في لبنان، منذ الحرب الأهلية، هو نظامٌ برلماني حقيقي. وقد نشأ مثل هذا الجدل بعد الانتخابات الإسبانية التي أدّت إلى الحرب الأهلية في العام 1936، حيث كتبت جريدة “تايمز” البريطانية تقول (بتاريخ 10 آب/أغسطس 1936): “قد يكون أنَّ نظامَ الحُكمِ البرلماني الذي يُناسِبُ بريطانيا العظمى، لا يُناسِبُ دولًا كثيرة غيرها. فالحكومة الإسبانية الأخيرة حاولت الالتزامَ بنوعٍ برلماني من الحكم الديموقراطي، من غير أيِّ نجاحٍ يُذكَر”.

وها هو العالَمُ كلّهُ شاهدَ على الشاشات المهزلة البرلمانية اللبنانية ثلاث عشرة جلسة نيابية في محاولةٍ لانتخابِ رئيسٍ للجمهورية من غير جدوى، لأنَّ ما بُنِيَ على باطلٍ فهو باطِلٌ.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى