2024، عامُ إنصافِ المُودِعين والإصلاحِ المَصرِفي في لبنان؟

الدكتور غازي وزني*

يدخلُ لبنان العام 2024 حامِلًا أعباء ومخاطر سياسية وأمنية جسيمة، وتحدّيات إقتصادية ومالية مُتعدّدة، أبرزها إقرارُ الموازنة العامة، إصلاحُ القطاع المصرفي، إقرارُ ال”كابيتال كونترول”، حمايةُ حقوق المُودِعين، إعادةُ تَفعيلِ المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وإستمرار الاستقرار النقدي. تحتاج هذه التحدّيات إلى توفّرِ الإرادة السياسية الغائبة والحقيقية لمواجهتها وتتمُّ عبر التدابير التالية:

1- حمايةُ حقوق المُودِعين: يعيشُ المُودِعون منذ أربع سنوات حالةَ قلقٍ على التذويب القسري لودائعهم بالدولار التي قاربت 35 مليار دولار مع اقتطاعٍ وَصَلَ إلى 87% من قيمتها، وعلى خسارةِ أموالهم بالليرة لحوالي 98% من قيمتها (أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي). كما تراجعت في الفترة عينها الودائع المحمية من 500 ألف دولار إلى 50 ألف دولار لكلِّ مودع نتيجة تعثّر خطّة التعافي المالي وعدم إقرار ال”كابيتال كونترول”.

في هذا الاطار، بات من الضروري في العام 2024 إقرار قانون يحمي أموال المُودعين ويمنع منعًا مُطلقًا مصرف لبنان والحكومة إتخاذ أيّ قرار من شأنه المَسّ بالودائع أو الاقتطاع منها أو سدادها بغير قيمتها الفعلية أو إلغاء التزامات المصارف لدى مصرف لبنان. لذا يتوجّب على حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، أن يقومَ بتعديل التعميم الرقم 151 الذي يُحدّدُ شراء مصرف لبنان الدولار من المصارف على أساس سعر 15 ألف ليرة بتعميمٍ جديد غير مُجحِف يُنصِفُ المودِع ويُوقِفُ الاقتطاع القسري من خلال تحديد الشراء على اساس السعر الفعلي في السوق، أي ما يعادل 89,500 ليرة، كخطوة أساسية لتوحيد سعر الصرف من دون انتظار إقرار الموازنة العامة. كما يتوجّبُ على الحكومة إعتماد السعر الفعلي في السوق في الموازنة العامة.

أمّا في موضوع أموال المودعين، من المُفيد أن نُشيرَ إلى كثرة الطروحات المُجحِفة أخيرًا بشأن حلّ مشكلة المودعين. فقد أصدرت جامعة “هارفارد” الأميركية دراسةً تطرحُ حلًّا لأزمة المصارف والمُودِعين من طريق تحويل 76 مليار دولار من ودائع المصارف بالدولار في مصرف لبنان إلى شهادات إعادة هيكلة مؤقتة مُمَثِّلةً إلتزامًا على الحكومة وليس على مصرف لبنان. يتمّ توزيع 90 % منها على المُودِعين مقابل أموالهم في المصارف التي تتجاوز 100 ألف دولار. أما الودائع المُتبقّية، فستكون مدعومةً من الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان.

كما تطرح الدراسة إعادة هيكلة الشهادات مع سندات اليوروبوندز والمطلوبات الأخرى على الدولة مع نسبة حسمٍ عالية تُراوِح بين 82% و 90%، أي أنها تطرحُ عملية شطب كبيرة للودائع لجَعلِ الدين مُستدامًا، كما تُحمّلُ الحكومة مُجمل الخسائر.

غَيرَ أنَّ الرأي الموضوعي، يستدعي القول إن معالجة أزمة الودائع البالغة حوالي 91 مليار دولار تبدأ بعمليةِ تَقييمٍ وتَدقيقٍ مالي لموجودات كلّ مصرف، ثم تستكمل بطريقة تضمن حقوق المودعين كاملة على الشكل التالي:

في البداية يتوجّب تسديد ودائع صغار المودعين التي لا تتجاوز قيمتها 50 ألف دولار في كل مصرف نقدًا أو بالليرة على سعر السوق في فترةٍ لا تتعدّى الخمس سنوات. هذا الإجراء يحلُّ مشكلة 79.3% من المودعين وتبلغ كلفته 8.4 مليارات دولار. أما الودائع المتبقّية، فتُسدَّد تدريجًا نقدًا أو بالليرة على سعر السوق في فترةٍ لا تتعدّى خمسة عشر عامًا بعد الأخذ في الاعتبار التدابير الآتية:

  • توزيع الودائع بين المُؤهَّلة وغير المُؤهَّلة. فالودائع غير المؤهَّلة هي الودائع التي تحوّلت من الليرة إلى دولارٍ وَهمي بعد 1/1/2020 من قبل مصرف لبنان على سعر 1507 بينما كان السعر في السوق أضعاف هذا السعر مما أدى إلى تحقيق المستفيدين أرباحًا خيالية. قاربت الودائع غير المؤهلة 16 مليار دولار ويمكن تسديدها على أساس سعر يقارب 50% من سعر السوق.
  • توزيع الودائع بين المشروعة وغير المشروعة. فالودائع غير المشروعة هي الودائع التي مصدرها الفساد والرشوة والتهرّب الضريبي أو تُستخدَم في عمليات تبييض الأموال إلخ… وتستطيع لجنة الرقابة على المصارف الكشف عنها وحجزها.
  • إعطاء كبار المودعين إمكانية تحويل ودائعهم إختياريًا إلى أسهمٍ فـي المصارف (Bail-In).
  • استرداد الفوائد المفرطة التي أعطيت لكبار المودعين في فترة 2016-2019 واستعادة الأرباح المرتفعة التي حقّقتها المصارف عبر الهندسات المالية.

أما مصادر تسديد الودائع، فهي متعددة وأبرزها:

  • إصدار الحكومة سندات دين بقيمة 40 مليار دولار تُشكّلُ حصتها من الخسائر في مصرف لبنان إستنادًا إلى المادة 113 من قانون النقد والتسليف. تستحق السندات تدريجًا في فترة 15 سنة. تستطيع الدولة تأمين الموارد من خلال المداخيل الإضافية التي تستطيع تحصيلها من خلال تحسين إدارة واستثمار وتفعيل أصولها الاستثمارية والعقارية؛ مكافحة التهرّب الضريبي والجمركي؛ عدم دفع خدمة الدين بالعملات الاجنبية سنويًا (2.5 ملياري دولار).
  • إستعمال احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية (9.3 مليارات دولار)، وقروض القطاع الخاص بالعملات الاجنبية (7.3 مليارات دولار)، وأموال المصارف لدى المصارف المُراسِلة (حوالي 5 مليارات دولار).
  • إدراج الحكومة ضريبة تصاعدية على الارباح الاستثنائية، تتراوح نسبتها بين 20% و40%، على المُقترضين الذين استفادوا من تسديد قروضهم المحررة بالدولار، بالليرة على أساس سعر صرف 1500 أو بأسعار صرف أقل بكثير من السعر الفعلي، مُحقّقين أرباحًا خيالية. تُستَثنى من الضريبة قروض التجزئة والسكن. تُقدّر هذه القروض بحوالي 17 مليار دولار ومن شأنها أن تُوفّر إيرادات تفوق 5 مليارات دولار.
  • إصدار المصارف سندات دائمة (Perpetual Bonds) بقيمة 5 مليارات دولار يمكن شراؤها من قبل العملاء أو مصرف لبنان مع تسجيلها كجُزءٍ من رساميلها.

2- إقرار قانون ال”كابيتال كونترول”: ثمّة ضرورة لإقراره رُغمَ تأخّره أكثر من أربع سنوات وتراجع فعاليته وخسارة جدواه بعد التحويلات الضخمة التي حصلت سابقًا، والفشل في ضبط عمليات الإستيراد. تبقى للقانون أهمية في تحديد سقف السحوبات الشهرية بالعملات الأجنبية، تنظيم عمليات التحويلات ونقل الأموال إلى الخارج، تحديد سعر الصرف وفق سعر السوق.

كما تبقى للقانون أهمية في حماية “الأموال الجديدة” من سوء استخدامها من قبل كبار المسؤولين في بعض المصارف كما حصل سابقاً وكما يحصل حالياً، الأمر الذي من شأنه أن يُطيحَ بكلِّ الجهود الإصلاحية التي تقوم بها الحكومة لإنقاذِ القطاع المصرفي وإعادة الثقة به. في هذا السياق، لا بدَّ من الإشارة إلى مسؤولية مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف في حماية الأموال الجديدة بإحالةِ المُرتَكِبين والمُخالفين أمام النيابة العامة المالية من دون أيِّ تردّد. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ رئيس مجلس النواب، نبيه بري، أعطى رئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، في جلسة مجلس النواب التشريعية بتاريخ 14 كانون الأول (ديسمبر) 2023 مهلة شهرين للعودة بقانون ال”كابيتال كونترول” إلى المجلس، ما يعني أنه على الحكومة الإتيان بهذا المشروع إلى البرلمان خلال شهرٍ من تاريخه.

3- الحفاظ على الإستقرار النقدي: منذ النصف الثاني من العام 2023 تعيش البلاد استقرارًا هشًّا ومرحليًا لسعر صرف الليرة، بسبب عدم استناده على مقوِّمات إقتصادية ومالية صلبة وحقيقية بل على عوامل سياسية بالدرجة الأولى ومن ثم عوامل ظرفية، تبدأ بركيزتها الأساسية ضبط الكتلة النقدية بالليرة التي إنخفضت من 80 تريليون ليرة إلى ما يقارب 58 تريليون ليرة نتيجة توقّف مصرف لبنان عن طبع العملة وامتصاصها من السوق؛ تحصيل وزارة المالية الإيرادات والرسوم نقدًا وعلى سعر السوق؛ الإستفادة من تحويلات المغتربين؛ مداخيل السياحة المحلية بالعملات الأجنبية؛ ضبط نشاط المضاربين؛ والدولرة شبه الشاملة للحركة الاقتصادية.

ولا بدَّ من التنويه بقرار حاكم مصرف لبنان بالإنابة عدم إقراض الدولة إلّا بقانون، ووقف إستنزاف الدولارات المُتبقّية.

في هذا الإطار، من المتوقع استمرار الاستقرار النقدي خلال الأشهر الأولى من السنة الجديدة على الرُغمِ من التحديات الأمنية والسياسية الماثلة أمام لبنان واللبنانيين، وذلك إستنادًا إلى التعاون القائم بين السلطتين التنفيذية والنقدية والعوامل الظرفية المساعدة، ويتوقّف استمرار الإستقرار في المرحلة الثانية على تنفيذ الإصلاحات المصرفية الأساسية وقدرة الحكومة على ضبط العجز في الموازنة الجديدة وقدرة مصرف لبنان على ضبط الكتلة النقدية.

4- إعادة هيكلة مصرف لبنان: تنطلقُ من معالجة مصرف لبنان خسائره البالغة حوالي 50 مليار دولار الناتجة غالبيتها من تجاوز موجوداته بالعملات الأجنبية التزاماته. تتم المعالجة من خلال توزيع خسائره إستنادًا إلى المادة 113 من قانون النقد والتسليف التي تُحمّل الدولة 80% منها، أي حوالي 40 مليار دولار. تستطيع الدولة تغطية خسائرها بإصدار سندات دين بقيمة 40 مليار دولار لمصلحة المصارف والمُودعين ويستطيع مصرف لبنان تحمّل خسارة في موازنته تصل إلى 15% من الناتج المحلي، وفق المعايير المحاسبية العالمية.

أما النظام المحاسبي في مصرف لبنان، فقد بات قديمًا للغاية وغير مطابق للمعايير الدولية التي تطبقها المصارف المركزية على صعيد تسجيل الخسائر وترحيلها؛ تحديد سك العملات؛ وتقييم الاحصاءات النقدية والمالية.

في الختام، يمكن القول إنه بعد أربع سنوات من المراوحة والإنكار للأزمة الإقتصادية والمالية والنقدية، بات من الضروري أن تتحمّلَ جميع الأطراف مسؤولياتها كاملة وأن يكون عنوان العام 2024 مقاربة قضية حقوق المودعين التي هي الخطوة الأساسية لاستعادة الثقة وأن تبدأ المعالجة بتوحيد سعر الصرف، ومن ثم الإنتقال إلى معالجة مشكلة المصارف وصولًا إلى ضمان أموال المودعين.

  • الدكتور غازي وزني هو أكاديمي وخبير اقتصادي ومالي لبناني، شغل منصب وزير المالية في لبنان في حكومة حسان دياب من 21 كانون الثاني (يناير) 2020 حتى 10 أيلول (سبتمبر) 2021.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى