حَدَثُ الإمارات: إستقرارُ الخليج ومَناعَةُ العرب

محمّد قوّاص*

في شهر حزيران (يونيو) من العام 2015، حَضَرتُ إحدى فعاليات أبوظبي الثقافية. كان  الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وكان حينها وليًّا لعهد أبوظبي، راعيًا للحفل يشاركه في المناسبة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وحاكم إمارة دبي. تحدّثَ الرجلان أمام الحضور الغفير عن ذكرياتهما يافعين، يرويان ما عرفاه وكانا شاهدَين عليه في محادثات والديهما الشيخين زايد وراشد لتوحيد الإمارات جميعًا وجعلها الدولة التي نعرفها اليوم.

كان حديثٌ عن اجتماعِ الشيخين المؤسِّسَين في شباط (فبراير) 1968 في خيمتين في الصحراء على مُرتَفعٍ يُسَمّى عرقوب السديرة بين دبي وأبوظبي. هناك اتفقا على إقامة دولة، ودَعَوَا بقية الإمارات إلى الانضمام. وقبل أيامٍ حين أصدر رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد مراسيم التعيينات الأخيرة، أطلق الشيخ محمد بن راشد تغريدة: “بكم وبإخوانكم القادة من الجيل الجديد تستمر المسيرة”.

لم تَخرُج التعيينات التي أصدرها الشيخ محمد بن زايد في 29 آذار (مارس) الماضي عن المألوف في سياسة الاستقرار التي ميّزت الدولة منذ عهد الراحل الشيخ زايد بن سلطان. كان الراحل يُردّد أن “الازدهار الحقيقي للدولة هو شبابها”.

وإذ تُنَظِّمُ قرارات الشيخ محمد بوضوح ودقّة الخريطة التي تُدار بها البلاد، فإنها، في ما لاقته من احتضانٍ داخلي وترحيبٍ خارجي، تأتي مُتّسقة مع عاديات البلد وحكاياته، لكنها تأتي أيضًا متكاملة مع المفاصل التي شهدها مجلس التعاون الخليجي حديثًا لجهة إرساء وئام نهائي بين بلدانه، وما تشهده كل المنطقة من تحوّلات في علاقاتِ بلدانها تبدو مفصلية لافتة تُحضّر الشرق الأوسط لتاريخٍ جديد.

عَيَّنَ الرئيس الإماراتي نجله الشيخ خالد بن محمد بن زايد وليًّا للعهد في إمارة أبو ظبي، وعَيَّنَ الشيخ هزاع بن زايد آل نهيان والشيخ طحنون بن زايد آل نهيان نائبين لحاكم أبو ظبي. وعيّن كذلك الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء، نائبًا لرئيس الدولة، إلى جانب الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رئيس مجلس الوزراء، وحاكم دبي.

لا يَستنتِجُ المراقب من قرارات رئيس الإمارات إلّا واجهة جديدة من واجهات نجاح تجربة دولة الإمارات في تأصيلِ وحدةٍ بين كل مكوّنات البلد، تكاد تكون نموذجًا لأيِّ مشروعٍ وحدوي ناضج عاقل يستشرفُ دائمًا المستقبل لإنتاج ترياق الراهن. وبتعبيرٍ أدقّ ما غرّد به الدكتور أنور قرقاش المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، لافتًا إلى أن “وضوح الاتجاه ووحدة الهدف أمران حيويان لمواصلة دولتنا نموذجها السياسي والاقتصادي الناجح”.

ولئن لم تُفصِح التعيينات إلّا عن استمرارية لسياقٍ ووجوهٍ أحبّها الإماراتيون ضمانًا لأمنهم وازدهارهم وديمومة موقع بلادهم الصاعد داخل المشهد الدولي العام، إلّا أنَّ الخرائط التي أفصح عنها رئيس الدولة في قرارات التعيينات تَعِدُ البلاد والخليحيين والعرب بإماراتٍ مستقرّة، ما برحت تُبهِرُ العالم بمناعتها وقوتها ورشاقتها وانخراطها في ديناميات الحركة وهجرها لأيِّ سكونٍ سياسي بليد.

تحتاج السعودية لإماراتٍ قوية مستقرّة تمامًا كما تحتاج الإمارات لسعودية قوية مستقرّة. وكأن في مشروع الملك سلمان بن عبد العزيز ووليّ عهده الأمير محمد في السعودية ما يحتاح إلى مناعة وقوة كل المنطقة، لا سيما دول الخليج والإمارات بخاصة. يستشرف الأمير محمد بن سلمان أن “الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة”. ولئن استفاضت التقارير منذ سنوات في الحديث عن الثنائي السعودي-الإماراتي بصفته جناحَيّ مجلس التعاون الخليجي في رفع مستوى الكتلة الخليجية وموقعها على الخريطة الدولية، فإن في مشروع الشيخ محمد بن زايد ديناميات تتسابق وتتآلف وتتكامل مع تحوّلات السعودية الطموحة.

لاقى الحدث الإماراتي أصداءً إيجابية من عواصم الخارج مُرَحّبة مُهنِّئة. جرى تواصل تلك العواصم مع أبوظبي على نسقٍ بروتوكولي مكثّف لتهنئة رئيس الإمارات على ما خرج به من قرارات. غير أن التفاعل السعودي جاء مختلفًا يُعبّر عن شيءٍ آخر يتجاوز الديبلوماسية الرسمية التقليدية بين الدول.

بدا الحدث كأنه مناسبة عائلية تجري داخل البيت الواحد وتؤسّس لمرحلة جديدة داخل هذا البيت. فما جمع السعودية والإمارات، خصوصًا خلال السنوات الأخيرة، شيّد روابط قامت على قِيَمٍ في السياسة والاقتصاد والمجتمع والدين باتت “أساس الملك” في البلدين وأعمدةً لـ”العقد الاجتماعي” لدى الشعبين. ولأن الحدث يطاول البيت الواحد، فإن وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تواصل مع “أفراد الأسرة” الإماراتية مُهنّئًا واحدًا واحدًا كل الشخصيات التي شملتها قرارات الشيخ محمد بن زايد.

بدا واضحًا أن للعائلات قواعد وأصولًا تظهر في المفاصل التاريخية، وأن تاريخ السعودية والإمارات كما بقية دول مجلس التعاون الخليجي قام دائمًا، رغم القفزات “الحداثوية” التي حققتها خلال العقود الماضية، على أصولٍ وتقاليدٍ وقِيَمٍ ضاربة في قدمها وعبقها، تؤصّل كينونة جماعية باتت في “لحظتها” التاريخية، تقود المنطقة برمّتها.

أنهت قمّة العلا في 5 كانون الثاني (يناير) 2021 وإلى الأبد حقبة متوتّرة في تاريخ الخليجيين. انتقلت بلدان المنطقة إلى طيّ صفحة والمسارعة إلى فتح صفحة أخرى. ظهر التضامن مع الدوحة من دون لبس في الاحتضان الخليجي لمونديال قطر وفي الردّ الجماعي على الضغوط التي مارستها عواصم غربية ضد الحدث القطري الكبير. تذهب المجموعة الخليجية إلى الاستقرار في علاقاتها البينية كما في علاقاتها مجتمعةً مع دول العالم.

بدا الحدث الإماراتي الجديد حدثًا خليجيًا بعامة وسعوديًا بخاصة. ترتيب البيت الإماراتي هو ترتيب لبيوتات بلدان المنطقة. طوت السعودية والإمارات معًا صفحة الأزمة مع قطر، لكن البلدين أبحرا معًا في مسارٍ متزامن، وإن كانت مواقيت تفاصيله متعددة لكنها متكاملة وتكاد تكون بتنسيق كامل. عالجت الإمارات ملفات الخلاف مع تركيا وإيران وسوريا، وهي ورشة انخرطت فيها السعودية أيضًا منذ سنوات بإيقاعات تتناسب مع مواقيت الرياض. وأيُّ متأمّلٍ لتلك المسارات سيراها حذقة في تفاوت إقلاعها واتّساق وصولها ومقاصدها.

وإذا كان العالم العربي يقرّ بـ”لحظة الخليج”، فإن الاستقرارَ في الإمارات ومنعةَ مكانتها وبقية الدائرة الخليجية واقعٌ تحتاجه دول المنطقة كافة، في عالمٍ شديدِ التوتّر غامض التحوّل صعب الاستشراف.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى