سعد الحريري: ما لَهُ وما عَلَيه (2): المخطوفون الثلاثة

سليمان الفرزلي*

نجح سعد الحريري في حَشدِ المُحازِبين، والمُريدين، والطامعين، والطامحين أيضًا، لكنه مع الأسف، خَيَّبَ آمالَ المُنتَظِرين. حتى الكلام الذي قاله لشاشةٍ سعودية (العربية)، بدا مُتَلعثِمًا ومُتناقضًا. رَدَّ على كلامِ سائله بأنَّ المنظومة الحاكمة في لبنان الآن لا تؤمن بالسلام (والمقصود هنا في أغلب الظن السلام مع إسرائيل)، “إنهم سوف يؤمنون عندما تأتيهم الأوامر”. ربما نسي سعد الحريري أنَّ اعتكافه، لا يلغي واقعٌ أنه كان من هذه المنظومة، بل من أقطابها. وهذا يعني أنه هو أيضًا ينتظرُ الإشارات (حتى لا نقول “الأوامر”). كما يعني، أنه هو من مؤيدي السلام أو حتى من أنصاره (حسب لغة قدامى الشيوعيين). وبالتركيب المنطقي للكلام، يمكن القول بأنَّ الحريري لن يعودَ إلى قواعده في لبنان قبل حلول “السلام”.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن قبل غيره من الأسئلة، هو: لماذا، إذن، هذا الحشد الكبير وغير المسبوق منذ اغتيال والده الشهيد؟ وبما أنه غير مسبوق منذ زمنٍ طويل، فما هو المقصود منه طالما أن سعد الحريري غير عازمٍ على العودة إلى لبنان في الوقت الحاضر، وطالما أن “السلام المنشود” ما زال بعيد المنال؟
لا أحدَ يستطيعُ أن يعطي جوابًا منطقيًا، أو فلنقل معقولًا، من غير الرجوعِ إلى أصل المشكلة الناجمة من اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري قبل نحو عقدين من الزمان، أو حتى إلى ما قبل ذلك، عندما أيقن اللبنانيون أنَّ رفيق الحريري هو الذي سيتولّى إدارة لبنان. ومن المفترض أن يكونَ بعضُ المُتابعين للشؤون اللبنانية، ما زالَ يتذكّر أنَّ رئيسَ الحكومة المُنتظَر في ذلك الوقت قادمٌ من أجلِ إطلاقِ ورشةِ إعمارٍ واسعةِ النطاق، لا إعمار ما هدّمته الحرب فقط، بل لجعل بيروت عاصمة الشرق، إن لم يكن عاصمة الكون. وكانَ القولُ الدارج في حينه، إنَّ رفيق الحريري قادم إلى لبنان على جناح السلام السريع، أو، تخفيفًا من هذه الدرجة العالية من اليقين، على رهان السلام. فأين لبنان اليوم من ذاك اليوم قبل عقودٍ عدة؟
والعبرة من ذلك، أنَّ أيَّ رهانٍ على السلام مع إسرائيل هو من قبيل الوهم في المُخَيَّلات الضعيفة، لأنَّ السلامَ مع إسرائيل، حتى لو تحقَّق في يوم من الأيام، سيكون حربًا بطريقة أخرى، لأنَّ الذين خلقوا فكرة إسرائيل، قبل قرن من خلق دولة إسرائيل، هم آلهة الحرب المؤبّدة.
ولذلك بدا سعد الحريري، في وقفته على قبر أبيه قبل يومين، شاردًا مُرتبكًا وكأنه مخطوف. والواقع أن سعد الحريري ليس هو المخطوف الوحيد. فقد خُطِفَ سعد الحريري يوم خَطَفَت “حركة 14 آذار” استشهاد رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير)، وأمعنت فيه تسيُّسًا وتزويرًا. هذا الخطف الأول، أدّى بدايةً إلى استبعاد سعد الحريري. إذ إن ما حدث في عهد حكومة فؤاد السنيورة يومذاك، هو خطف لبنان، بإلغاء التوازن الميثاقي الذي قام عليه لبنان أصلًا، حيث مارست حكومته الحكم بتغييب المُكوِّن الشيعي، وكأنه غير موجود.
ولم يكن كسر الميثاقية اللبنانية مع الشيعة، على الرُغمِ من الاعتصامات الشعبية الحاشدة في وسط بيروت لمدة سنة ونصف السنة، شيئًا بسيطًا أو قليلًا، لأنه في حقيقته هو إخراجٌ للشيعة من لبنانيتهم، وليس فقط “حزب الله”، وهذا من الأسباب الجوهريَّة التي حملته تاليًا على استخدام ما لديه من طفحٍ في القوة على المسرح الإقليمي ليصبح من أكبر اللاعبين على مسرح أوسع من لبنان بأضعاف مضاعفة، ناهيك بما هو عليه في لبنان. ذلك أن الشيعة هم الذين اختاروا لبنان بلسان كبير أئمتهم في ذلك الوقت الشيخ عبد الحسين شرف الدين، عندما عرض عليهم الملك فيصل الهاشمي أن يدخلوا في دولته العربية في دمشق. وشأنه في ذلك شأن مفتي طرابلس، الزعيم الوطني الكبير عبد الحميد كرامي، الذي أوصى الطرابلسيين بالتمسّك بلبنانيتهم، وأدخل ذلك خطّيًا في وصيَّته عندما بلغه، قبل وفاته، أنَّ بعضَ غلاة شبان المدينة يُمزّقون الهوية اللبنانية التي أعطيت لهم، وبعضهم كان يُخزّقُ الأرزة ويحتفظ بالهوية!
وقد تطرَّقَ الرئيس العام الأسبق للرهبنة اللبنانية المارونية الآباتي بولس نعمان في الجُزء الأول من كتاب مذكراته بعنوان “الإنسان، الوطن، الحريَّة” (1968 – 1992)، إلى موضوع “الأحقيَّة الشيعية في اللبنانية”، من خلالِ حديثٍ له مع كاظم الخليل، الذي تحدَّثَ إليه عن الغبن اللاحق بالشيعة في أحقيَّتهم اللبنانية، ونقل عنه قوله: “كنتُ أودُّ أن يبدأ الوعي الشيعي في لبنان بالذات من خلال اتفاقٍ بين الشيعة والمسيحيين”. وقال له كاظم الخليل أيضًا: “إنَّ الشيعة هم سلاحٌ قويٌّ ضد أعداء لبنان”. وفي الختام قال كاظم الخليل للآباتي نعمان: “إنَّ الدولة اللبنانية تتآمر حتى الساعة مع السنَّة على الشيعة، ولم تأتِ حكومةٌ منذ الاستقلال عملت على تأمين حقوقهم” (الصفحات 284 – 286 من مذكرات الآباتي بولس نعمان).
لكن عملية خطف لبنان، بعدَ خطفِ قضية رفيق الحريري، لم تنتهِ فصولها بعد. فالذي يحصل اليوم في ظلِّ حكومة نجيب ميقاتي هو الفصل الأخطر من عملية خطف لبنان، من خلال نزع الميثاقية عن المُكَوِّنِ المسيحي الذي هو في الأصل السبب الموجب للكيان اللبناني. فالمشروع الذي بدأه فؤاد السنيورة بكسر الميثاقية مع الشيعة، يُستَكمَلُ اليوم بكسر الميثاقية مع المسيحيين. وقد تمَّ ذلك مع الأسف، وفي الحالتين، بغطاءٍ من فريقٍ مسيحيٍّ وازن، من 14 آذار ومن بقاياه.
فبماذا سينفع حشد الحريري، وخطابه لم يتغيّر فيه شيء، خصوصًا أنه لم يقل للبنانيين الى أين سيصل بهذا الحشد، وقد بدا عليه، وهو يحيِّيه، أنه مخطوفٌ، مثل 14 شباط، ومثل الميثاقية اللبنانية المبرِّرَة لوجود لبنان؟

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى