سُقوطُ ناغورنو كاراباخ … لماذا سَكَتَت روسيا؟

محمّد قوّاص*

غريبٌ جدًا، وخارجُ أيّ سياق، أن ينتهي الصراعُ العتيق حول إقليم ناغورنو كاراباخ إلى المآلات التي انتهى إليها في الأيام الأخيرة. تكاد أذربيجان تستعير صيغة “العملية الخاصة” التي استخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوصف حربه ضد أوكرانيا. الفرق أن العملية التي شنتّها باكو في 19 أيلول (سبتمبر) الجاري ضد الإقليم، ذي الأقلية الأرمنية، قد تكللت بنصرٍ بطعمِ الاستسلام يُقفلُ ملفًّا لا أحد استشرف إقفاله. فيما عملية بوتين الخاصة تحوّلت إلى حربٍ كبرى ما زالت موسكو بعيدة جدًا من إنهائها بنصرٍ مُبين.

ومع ذلك، فإنّ الحدثَ يستحقُّ أن نبحثَ له عن سياقٍ وخلفياتٍ وبيئةٍ منطقية. صَدَقَ رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان حين اعترف أنّه كان خطأً كبيرًا الاعتماد على روسيا حصرًا لضمان أمن البلد الاستراتيجي. حين شنّت أذربيجان الحربَ على الإقليم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 بدا وكأنّ الأمرَ جرى بتواطؤِ روسيا وليس من وراء ظهرها. بوتين لا يحب باشينيان الذي أتت به ثورة إلى الحكم. نقلت وسائل الإعلام الدولية مباشرةً عدم ردّ الرئيس الروسي على اتصال نظيره الأرميني أثناء تلك الحرب، ما عبّر عن شماتة وعكَسَ تشفّيًا وعدم اكتراث لمسار الحرب ومصير الإقليم وفقها.

وإذا ما أشرفت موسكو آنذاك على إنهاء حرب شاركت مُسيّرات من صناعةٍ تركية في إظهار تفوّق أذربيجاني واضح فيها، فإنّ تبرّع روسيا بـ 2000 من قوات حفظ السلام بدت راعية لنصر باكو، غير آبهة بالاعتراض على أيِّ خروقٍ لوقف إطلاق النار ترتكبها القوات الأذرية هناك. حتى أنّ موسكو اعتبرت أنّ الأمرَ يجري فوق أراضي أذربيجان، طالما أنّ الإقليم غير مُعترَف به دولياً… وروسيًّا. وحين شُنَّ هجومُ الأيام الأخيرة، قالت موسكو، إنّه طالما أنّ الأمرَ لا يطال قواتها فإنّ روسيا لا تتدخّل في هذه الحرب.

ولأنّ روسيا تُبشّر بانتهاء النظام الدولي الراهن وتستشرفُ نظامًا دوليًّا جديدًا مُتعدّد الأطراف، فإنّ الأمرَ ما زال غير ناجزٍ وخاضعًا لوجهات نظر، فيما يتبدّل، في المقابل، حال المنظومة الإقليمية التي كانت تُهيمن موسكو عليها، فتفقد روسيا سطوتها وهيمنة نفوذها على المنطقة، إذ تُراوِحُ مواقف دولها بين أخذ مسافة مُتّزنة من موسكو، واقترابها أكثر من بدائل دولية أخرى بعضها غربي-أميركي بامتياز.

كان سَبَقَ لدول آسيا الوسطى أن أظهرت تحفّظًا وحتى رفضًا للحرب التي تشنّها روسيا ضدّ أوكرانيا. لسان حال هذه الدول السوفياتية السابقة يقول، إنّ بوتين الذي لا يعترف بحدود استقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي، لن يعترف، إن قُيِّضَ له النصر، بحدود استقلال هذه الدول أيضًا. وكان رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكييف الأكثر تعبيرًا عن هذه الهواجس، حين رفض في حزيران (يونيو) 2022 الاعتراف بإقليمَي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليين شرقي أوكرانيا، كجمهوريتين مستقلتين، وذلك خلال مشاركته مع الرئيس الرئيس الروسي في إحدى ندوات “منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي”.

أدرك رئيس وزراء أرمينيا أنّ موسكو تتربّص ببلاده، غير مُستَعِدّة لحمايتها وفق روحية منظّمة معاهدة الأمن الجماعي التي تنتمي أرمينيا إليها، وهي التشكّل الإقليمي الذي أشرف بوتين على رعايته وتعزيز وحدته وضبط علاقاته مع موسكو، كردٍّ على حلف شمال الأطلسي. لم يكتفِ باشينيان بالتحفّظ والعتب بعد استنتاجه خطيئة الاعتماد الأمني على روسيا، بل ذهب إلى التقرّب من الغرب، إلى درجة تراجعه عن استضافة تدريبات منظّمة معاهدة الأمن الجماعي وإجراء مناورات عسكرية في المقابل مع الولايات المتحدة، اعتبرها نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، استفزازية تنتهك روح المنظّمة الإقليمية التي تنتمي إليها.

الواضح أنّ أذربيجان المدعومة من تركيا قد قرأت هذا المشهد جيدًا، واستنتجت أنّ فرصةً تاريخية بات يوفّرها المشهد الإقليمي في القوقاز، يتيح لباكو تحقيق ما عجزت عن تحقيقه في حرب 1988- 1994 وحرب 2020، باستعادة السيادة كاملة على الإقليم. غير أنّ الأمرَ يفضحُ أيضًا تراجع مكانة روسيا في إدارة شؤون المنطقة، وقبولها بأيِّ أمرٍ واقعٍ جديد لا تستطيع موسكو ردعه أو حتى الاعتراض عليه.

سيكون من الصعب تحقيق نبوءة بوتين بولادة نظام دولي جديد تكون فيه روسيا قطبًا منافسًا للولايات المتحدة. قد يجوز للصين ادّعاء ذلك والطموح إليه، لكن روسيا الغارقة في وحول حرب أوكرانيا التي ما زالت تحمل تداعيات مقلقة حتى داخل روسيا نفسها (حدث “فاغنر” وزعيمها الراحل يفغيني بريغوجين مثالًا)، قد تكون غير مُقنعة في الزعم بتغيير النظام الدولي، بينما يتلاشى نظامها الإقليمي القوقازي.

مسارعة إقليم ناغورني كراباخ إلى القبول بشروط أذربيجان لوقف إطلاق النار، بما في ذلك حلّ قوات الإقليم المسلّحة وإنهاء حالة الانفصال، هو قرار أرميني صدر في يريفان من قِبل الحكومة التي يرأسها باشينيان. والقرار اتُخذ بسرعة بعد قراءة مُتَأنّية للمشهدَين السياسي والعسكري، إذ كان جليًّا وجود تواطؤ متعدّد الأطراف لإلحاق الهزيمة بالإقليم برضى روسي كامل و”إقفال الملف”. وحين خرج في أرمينيا مَن ينتقد صمت القوات الروسية في الإقليم، جاء مَن يردّ في موسكو شماتة لماذا لا تستعينون بالـ”ناتو”؟

قد لا يكون الحدث مُفاجئًا طالما أنّ رئيس وزراء أرمينيا كان اعترفَ في أيار (مايو) الماضي من هذا العام بسيادة أذربيجان على ناغورني كراباخ. لكن قرار يريفان جاء مفاجئًا، لم يكن الرأي العام الأرميني على دراية بظروفه وخلفياته. هذا ما يفسّر خروج التظاهرات المعترضة في العاصمة الأرمينية التي تعبّر عن غضبٍ قومي من خسارةِ تمدّدٍ قومي صمدَ منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. وقد لا تكون هذه التحرّكات الشعبية بعيدة من مزاج بوتين، الذي يرغب بإضعاف حكومة باشينيان، لعلّ ذلك يأتي بحكومةٍ موالية على غرار تلك في جورجيا مثلًا.

غيرَ أنّ خسارة معركة لا يعني أنّ الأمورَ ذاهبةٌ وفق منطق هذه الخسارة. فروسيا- بوتين التي غضّت الطرفَ انتقامًا من تمرّد باشينيان وخيانته، خسرت بدورها ثقة كامل دول آسيا الوسطى، التي تأكّد لها من دون لبس، عجز روسيا عن لعب دور المرجع والغطاء الأمني لها. والأمر يُنذر بتوسّع النفوذ غير الروسي في هذه المنطقة، لا سيما ذلك الغربي والصيني الذي سيتقدّم مالئًا الفراغات التي يسببها ضعف روسيا وتراجع قوتها، مقابل تركيز موسكو قواها على حرب أوكرانيا.

قد تسحب روسيا قواتها من إقليم ناغورني كراباخ طالما أنّها أساسًا لم تكن فاعلة لحفظ السلام. وإن لم تفعل، فقد تضطر أذربيجان المنتشية بنصرها، أن تطرد تلك القوات ولو بعد حين. الأمر سيكون سابقة تطال كل تلك القوات الروسية التي تلعب دور أحصنة طروادة في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في جورجيا وترنيستيا في مولدوفيا، التي ما برحت تؤمّن لروسيا السطوة والنفوذ، وتلوّح دائمًا باجتياحات روسية على منوال ما شُنّ ضدّ أوكرانيا وقلب مشهد العالم برمّته رأسًا على عقب.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى