واشنطن-إيران: خَطَأُ ترامب وخَطِيئةُ بايدن

محمّد قوّاص*

تجتمعُ إيران والولايات المتحدة على نفيّ الأنباء التي تحدّثت عن قُربِ التوصّلِ إلى اتفاقٍ بشأنِ تبادل السجناء بين البلدين كما بشأنِ الاتفاق حول البرنامج النووي. ويكاد هذا النفيّ يأتي مُتلَعثِمًا يُشبه تكتيكات اللحظة الأخيرة في التفاوض. لكنه أيضًا يُجاري ضغوطًا داخلية في واشنطن أكثر من طهران لتمريرِ عَلقَمٍ شديدِ المرارة.

وما يُنشَرُ في كبرى وسائل الإعلام الأميركية بشأنِ هذا الاتفاق يقومُ على تسريباتٍ مقصودة من واشنطن تهدفُ، على الأرجح، إلى قياسِ ردودِ الفعل الداخلية وتفحّصِ حراكِ الكونغرس مُجتَمعًا واستدراجِ مواقف الحزب الجمهوري. فتطوّرٌ من هذا النوع سيكون مناسبة للردح المتبادل يُستَثمَرُ داخل سياق الانتخابات الرئاسية لعام 2024.

يأتي النفي الأميركي نسبيَّ الملامح. فما صدر عن واشنطن يقول إن الأنباء “غير دقيقة” وفق تعبير وزير الخارجية انتوني بلينكن، بما يشي أنَّ الطبخَ جارٍ على قدم وساق وأن الصفقة في خواتيمها.

يأتي النفيّ أيضًا ليؤكّد ما سبق أن أنكرته واشنطن في شأن وجودِ قناةٍ خَلفيةٍ ناشطةٍ يجري وفقها تفاوضٌ حثيثٌ بين الولايات المتحدة وإيران في مسقط برعاية سلطنة عُمان. بات معروفًا، وفق رويترز نقلًا عن مسؤولٍ غربي، أن السلطنة استضافت أكثر من جولة للحوار بين مسؤول ملف الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي الاميركي، برت ماكغورك، والمفاوض الايراني الرئيس في الملف النووي، علي باقري كني.

ولئن تُجاري طهران واشنطن حفلةَ الإنكار، فذلك لأنَّ لا مصلحة لإيران ببيع سمك لدى الداخل الإيراني قبل اصطياده.

تنفي طهران وواشنطن أنباء التوافق على الرغم من إعلان وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي في 14 حزيران (يونيو) عن تحقيقِ إنجازٍ كبيرٍ في مفاوضات العاصمتين وعن قرب التوصّل إلى اتفاقٍ بشأنِ السجناء وآخر بشأن البرنامج النووي. واستنتجَ الوزيرُ أيضا أن طهران وواشنطن “جادتان” في التوصل لإعادة إحياء الاتفاق النووي. ولئن لا يُدلي الوزير العُماني بما أدلى به إلّا بناءً على مُعطياتٍ صلبة، فإن ردّ فعل الإدارة في واشنطن يكشفُ أنَّ في هذا الاتفاق العتيد ما لا يُمكن تمريره والسَّير به.

تفرج الاتفاقات عن ملياراتٍ من الدولارات المحتجزة في عواصم متعددة. ولئن غضب الكونغرس مما ارتكبه الرئيس الأسبق باراك أوباما في اتفاق فيينا لعام 2015 لجهة تحويل المليارات صوب طهران، فإنَّ الأمرَ مع الرئيس الحالي جو بايدن لن يكونَ سهل الهضم لدى الحزبين، الجمهوري والديموقراطي، لا سيما أنَّ لا تغييرَ في الولايات المتحدة قد طرأ على تقييم نظام الجمهورية الإسلامية وسلوكها المُعادي للولايات المتحدة، ولم يصدر أساسًا من طهران ما يُوحي بغيرِ ذلك.

وبغضِّ النظرِ عمّا هو تقليدي عتيق في العداء بين البلدين، فإن سياقَ حرب أوكرانيا يدلي بدلوه في النزاع بينهما ويُفتَرَضُ أن يُعرقلَ أيَّ اتفاق. فالولايات المتحدة تخوض حربًا غير مباشرة مع حلفائها دعمًا لأوكرانيا ضد روسيا. بالمقابل فإن واشنطن نفسها تتهم طهران بتزويد موسكو مئات من المسيّرات (400 منذ آب/أغسطس 2022 وفق واشنطن) وآلاف القذائف المدفعية لدعم هجمات روسيا ضد أهداف أوكرانية. بمعنى أنَّ سلاحًا إيرانيًا يساهم بالفتك بآلةِ حربٍ أوكرانية بات جُلها أطلسيًا، ما يطرح تساؤلات داخل الكونغرس بشأن منطق تحرير مليارات من الدولارات وسوقها لتساهم في تمويل آلة حرب إيرانية مُعادية لأميركا والغرب.

غير أنَّ في ما تسرّب عن هذا الاتفاق يُمثّلُ فضيحةً للإدارة في البيت الأبيض وهزيمةً للولايات المتحدة. فإضافةً إلى الإفراج عن أرصدة إيرانية مُحتَجزة، وهذا تحصيلٌ حاصل في أيِّ اتفاق، فإنَّ الصفقة، وفق مَن سَرّبها، تشترطُ بالمقابل توقف إيران عن القيام بتخصيب اليورانيوم بنسبة تزيد عن 60 في المئة. فإذا ما انسحبت الولايات المتحدة في العام 2018 بقرارٍ من رئيسها آنذاك، دونالد ترامب، من الاتفاق حين كان التخصيب لا يتجاوز 3.67 (وفق اتفاق فيينا)، فإن إدارة بايدن إدا ما صدقت تسريبات الاتفاق ستقبل بالأمر الواقع الذي فرضته إيران وسيتعايش العالم مع نسبة تخصيب تضاعفت 15 مرة.

في واشنطن من يعتبر أنه إذا كان ترامب قد ارتكب خطأً فإن بايدن سيرتكب خطيئة. كان مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد وجدوا في شباط (فبراير) الماضي جُزئيات من يورانيوم مُخَصّب بنسبة 83.7 في المئة. قبلت الوكالة لاحقًا تفسيرات طهران بشأن حدثٍ تقنيٍّ عَرَضي قد أدّى إلى ذلك. لكن في ما اكتشفته الوكالة تأكيدٌ أنَّ إيران قادرةٌ في أيِّ وقتٍ وبناء على قرارٍ سياسي يصدرُ من طهران على رفع التخصيب إلى نسبة 90 في المئة اللازمة لصناعة قنبلة نووية.

تحتاج إيران والولايات المتحدة إلى الاتفاق. تحريرُ السجناء يُغلقُ ملفًّا سياسيًا حَرجًا في واشنطن ويُغدِقُ على طهران عودة أرصدة محتجزة. والصفقة النووية المتوخّاة توفّر ضمانات جديدة لواشنطن من شأنها التخفيف من توتر إسرائيل ويقلل من تهويلها وتهديداتها بالحرب، وتُجمّدُ نزاعًا لا يتداعى سلبًا على حظوظ المرشح بايدن في انتخابات العام المقبل، بالمقابل فإن الاتفاق يرفع العقوبات عن إيران ويُعيدُها إلى الاقتصاد العالمي. غير أن الوصول إلى نقطةٍ تُرضي الداخليْن، الأميركي والإيراني، ما زال دونها عقبات تحتاج حتى الآن إلى نفيّ متصنّعٍ يصدر عن واشنطن.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى