كيسنجر كان حاسِمًا في الخطة الأميركية التي مَكَّنَت إسرائيل ودَمَّرَت فلسطين

مايكل يونغ*

لفترةٍ طويلة، تم تصوير وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر، الذي وافته المنية في 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، على أنه رجلُ سلام. في الواقع، حصل على جائزة نوبل للسلام في العام 1973، جنبًا إلى جنب مع كبير مفاوضي فيتنام الشمالية “لي دوك ثو”، لتفاوضهما على وقف إطلاق النار خلال حرب فيتنام. كان “لي دوك ثو” وحده يتمتع باللياقة لرَفضِ الجائزة.

إنَّ أيَّ شخصٍ مُطَّلِعٍ على تصرّفات كيسنجر خلال محادثات السلام في باريس في العام 1968 بشأنِ إنهاءِ الحربِ في فيتنام كان يعلم أنَّ التزامه بالسلام كان أقلّ وضوحًا بكثير من التزامه بتقدّمه الشخصي. في ذلك الوقت، بصفته أحد المشاركين في الوفد الأميركي، قامَ بتسريبِ معلوماتٍ إلى حملة إنتخابات ريتشارد نيكسون الرئاسية مما ساعد على نسف المحادثات. في وقتٍ لاحق، كافأ الرئيس نيكسون كيسنجر بتعيينه مُستشارًا للأمن القومي.

ويُمكِنُ اكتشافُ موقفٍ مُماثل في نهج كيسنجر تجاه السلام العربي-الإسرائيلي بعد العام 1969، عندما تولى منصبه. في العام 1973، عندما صار وزيرًا للخارجية، عزّز صورته كصانعٍ للسلام من خلال الرحلات المكوكية بين العواصم العربية للتفاوض على إنهاء الحرب العربية-الإسرائيلية التي اندلعت في تشرين الأول (أكتوبر) 1973. ومع ذلك، فإنَّ تصرّفاته في السنوات التي سبقت ذلك أظهرت أن هذا كان مُجرّد خدعة.

ولوضع هذا الأمر في سياقه علينا أن نعود إلى العام 1969، وهو العام الأول لكيسنجر في منصبه كمستشارٍ للأمن القومي. كانت الحرب العربية-الإسرائيلية التي اندلعت في حزيران (يونيو) 1967 انتهت قبل ذلك بعامين، حيث أصدر مجلس الأمن الدولي في حينه القرار رقم 242 لتحديد إطار الجهود المستقبلية للتوصّلِ إلى تسويةٍ شاملة. وكان القرارُ أساسيًا في إنشاء صيغة “الأرض مقابل السلام”، حيث تتخلّى إسرائيل عن الأراضي التي احتلتها في العام 1967 مقابل اتفاقيات سلام مع الدول العربية.

وأكّدَ القرارُ “عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب”. كما دعا إلى “انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في الصراع الأخير”. وكان هذا من الشروط التي حددها القرار بأنها ضرورية “لإقامةِ سلامٍ عادلٍ ودائمٍ في الشرق الأوسط”.

كانت مسألة الانسحابات دائمًا ومنذ فترة طويلة مصدرًا للخلاف، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى أنَّ إسرائيل تمكّنت من إدخال الغموض على صياغة القرار. من خلال إدراج عبارةٍ غامضة إلى حدٍّ ما، “من أراضٍ محتلة في الصراع الأخير” بدلًا من “الأراضي”، ترك الإسرائيليون نطاقَ الانسحابات إلى أجلٍ غير مُسمّى، ما سمح لهم بالقول إنهم يستطيعون الاحتفاظ بجُزءٍ على الأقل من الأراضي العربية المحتلة. إن وجود هذا الالتباس فقط في النسخة الإنكليزية من القرار أظهرَ أنَّ الإسرائيليين كان لديهم بُعدُ نظرٍ في إدراك أنَّ هذه هي النسخة التي ستسود وتُعتَمَد.

مع ذلك، ما هو غير معروف وأقل انتشارًا هو كيف أفرغت إدارة نيكسون القرار 242 بشكلٍ مطرد من محتواه في سلسلةٍ من التفاهمات الثنائية مع إسرائيل. في كانون الأول (ديسمبر) 1969، أعلنت واشنطن ما أصبحَ يُعرَف ب”خطة روجرز”، نسبةً إلى وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت ويليام روجرز. كانت الخطة محاولة لتحقيق تسوية بين العرب وإسرائيل، والتي أثارت غضب رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مئير بشكلٍ كبير.

لقد أعادت خطة روجرز التأكيد على القرار رقم 242، على الرُغم من أنَّ روجرز، في خطابٍ ألقاه في كانون الأول (ديسمبر) 1969، أدخل تحذيرًا بأنه قد يتعيّنُ إجراءُ تعديلاتٍ على الحدود، نظرًا لأنَّ الحدودَ السائدة قبل حرب العام 1967 تمَّ تحديدُها بموجبِ اتفاقيات الهدنة لعام 1949، وبالتالي لم يتمّ تحديدها نهائية بالضرورة. لكن الوزير اعتبر هذه التعديلات طفيفة، مُشَدّدًا على أن الولايات المتحدة لا تدعم التوسّعية.

مع ذلك، لم يكن روجرز القوة الحقيقية في السياسة الخارجية في الإدارة. كان كيسنجر والرئيس نيكسون اتَّخَذا خطواتٍ لتقويضِ خطة روجرز، لأنهما اعتبرا إسرائيل حليفًا قَيِّمًا في الحرب الباردة. ونتيجةً لذلك، أرسل نيكسون في تموز (يوليو) 1970 رسالةً إلى مئير، ذكر فيها أن الإدارة لن تصرَّ على قبول إسرائيل للتعريف العربي للقرار 242.

وجاء في الرسالة: “أريد أن أؤكد لكم أننا لن نضغط على إسرائيل لقبول المواقف المذكورة أعلاه [مصر، بشأن الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة]. موقفنا بشأن الانسحاب هو أن الحدود النهائية يجب أن يتم الاتفاق عليها بين الطرفين…”.

كانت الصياغة اللطيفة تعني أن الأميركيين لم يعتبروا القرار 242 ينصُّ على انسحابٍ كامل من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام 1967. وقد عزّزَ هذا التفسير الإسرائيلي، وربما أضعف تأكيدات روجرز بأنَّ الولايات المتحدة تسعى فقط إلى تغييراتٍ حدودية طفيفة.

في شباط (فبراير) 1972، ذهبت الإدارة إلى أبعد من ذلك، مُؤكّدةً أن إسرائيل ليست بحاجة إلى الالتزام بالانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة كجُزءٍ من أيِّ اتفاقٍ مؤقت مع العرب. بعبارةٍ أُخرى، يمكنها الدخول في مفاوضاتٍ بدون تحديد نتائجها النهائية مُسبَقًا، ما يترك للإسرائيليين هامشًا واسعًا من المناورة الديبلوماسية.

والأهم من ذلك، لأنَّ إسرائيل شعرت بالصدمة من خطة روجرز، اتفق الأميركيون والإسرائيليون في العام 1972 على أنَّ واشنطن لن تقومَ بأيِّ تحرّكاتٍ بشأنِ السلام في الشرق الأوسط من دون مناقشتها أوّلًا مع إسرائيل. بعبارةٍ أخرى، فقد مُنِحَت إسرائيل حقّ النقض الضمني، حتى لو كان الأميركيون يتجنّبون دائمًا عَرضَها على هذا النحو.

من خلال تقويض القرار رقم 242، منحت الإدارات الأميركية المُتعاقِبة إسرائيل مجالًا واسعًا لمواصلة احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة (ناهيك عن مرتفعات الجولان). فالصراع في غزة اليوم والتوترات في الضفة الغربية ينحدران مباشرة من هذه السياسة قصيرة النظر والضمانات الأميركية الممنوحة لإسرائيل والتي استخفّت بالإجماع الدولي.

كان كيسنجر في قلب هذه العملية، ولم تؤدِّ تحرّكاته بأيِّ حالٍ من الأحوال إلى التوصّلِ إلى تسويةٍ سلمية واسعة النطاق. بدلًا من ذلك، شجعت سيطرة إسرائيل على الأراضي العربية، والتي عززتها أكثر إدارة دونالد ترامب في العام 2019 عندما اعترفت بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وكذلك بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان. لم تكن الولايات المتحدة قط وسيطًا مُحايدًا، بل اختارت موقفها والجانب الذي تدعمه بصراحة. وكان كيسنجر حاسمًا في أخذ الأمور في هذا الاتجاه.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى