هذا الآتي باسمِ الرَبّ لمُعانقةِ الإسلام

بقلم الدكتور فيليب سالم*

ها نحنُ نُسبِّحه؛ هذا الآتي باسمِ الربّ لمُعانقةِ الإسلام. وها نحنُ ننحني أمامه؛ هذا القادم من الغرب إلى المشرق العربي لإرساء الأخوّة الإنسانية. لقد حذّروه من المخاطر والحروب والنزاعات التي لا تزال تشتعل ههنا؛ وعلى الرغم من كل ذلك جاء إلى بلادنا. جاء مُؤمِناً بأن الربَّ الإله يحميه من كلِّ شرّ. جاءَ حاملاً رسالة المحبة والسلام. والله وحده يعرف كم يحتاج هذا الشرق إلى المحبة والسلام.

هذه ليست زيارته الأولى. لقد زار دولة الإمارات العربية من سنتين، ووقّع في 4 شباط (فبراير) 2019، وثيقة الأخوّة الإنسانية مع الشيخ أحمد الطيّب، شيخ الأزهر وإمامه الكبير. يومها عانق رأس الكنيسة الكاثوليكية رأس الطائفة السنية في العالم العربي. وها هو يأتي اليوم إلى النَجَف ليلتقي آية الله العظمى علي السيستاني، المرجع الديني الأعلى للطائفة الشيعية في العراق. وبهذا يبني البابا فرنسيس جسراً من الأخوة بين المسيحية والإسلام، وجسرا من المحبة بين الشرق والغرب. وتتويجاً لزيارته إلى النجف، يزور الحبر الاعظم مدينة أور التاريخية، حيث تقول الكتب أن هذه المدينة كانت مسقط رأس النبي ابراهيم، أب الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. كم كان الله كريماً على هذا الشرق. فأعطاه الأديان، وأغدق عليه بالأنبياء. ولكن كَم كان الإنسان في هذا الشرق صغيراً؛ إذ جعل من الأديانِ أداةً للحروب والدمار بدل أن تكون أداةً للأخوّة وللعظمة التي ترتقي بالإنسان إلى فوق. وماذا يا ترى لو عاد النبي ابراهيم إلى هذه الأرض؟ سيرى ارضاً مُمزقة وإنساناً مَسحوقاً. لقد اعتدى الإنسان عندنا على أخيه الإنسان، واعتدى على الدين، كما تجرّأ على الاعتداء على الله. لقد جاء في وثيقة الأخوّة “أن الأديان لم تكن أبداً بريداً للحروب أو باعثة لمشاعر الكراهية والعداء والتعصّب، أو مُثيرةً للعنفِ وإراقة الدماء.  فهذه المآسي هي حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينية ونتيجة استغلال الأديان في السياسة”. لقد تطرّقت الوثيقة إلى الأخوّة من مُنطلَق حضاري يُكرِّسُ احترامَ كيانية الإنسان الفرد وثقافة التسامح وقبول الآخر. ولكن هناك بنية تحتية علمية لأخوّة البشر بالإضافة إلى هذه البنية الحضارية.

‏لقد أثبتت الدراسات العلمية التي استهدفت رسم خريطة الجينات عند الانسان والتي كانت أهم مشروع علمي بحثي في القرن العشرين، أن البشر يتشاركون بالحامض النووي (DNA) نفسه، بنسبة 99.9 % .هذا يعني أن أكبر اختلافٍ بال”DNA”، وهي مادة الحياة، بين انسان وآخر هو بنسبة تقل عن 0.1%.  ويحدث هذا الاختلاف، بالنسبة ذاتها، في العائلة الواحدة. كان رئيس فريق الباحثين في هذا المشروع فرنسيس كولِنز (Francis Collins) الرئيس الحالي للمؤسسة القومية الأميركية للأبحاث الطبية (National Institutes of Health)، وهي المؤسسة الأم التي تُشرف على معظم الأبحاث العلمية الطبية في الولايات المتحدة الأميركية. كان كولنز قبل البدء في هذا المشروع إنساناً مُلحِداً، وإذا به بعد الانتهاء من أبحاثه يُصبحُ رجلاً مُؤمناً ويصدر كتابا عنوانه “لغة الله”. وعندما نغوص في علم الحياة الى مستوى الخليّة، نجد أن هذه الخلية، وهي أصغر وحدة بنيوية في جسم الانسان، هي عالمٌ لا حدود له بالمعرفة.

وكما إن الكَونَ (Cosmos) الخارجي في الفضاء لا حدود له، كذلك كَون الخلية. وكيف صنع الخالق هذه الخلية التي هي ذاتها تماماً في كلّ إنسان. ذاتها في المظهر الخارجي، وذاتها في وظائفها. وعندما تذهب أنت للنوم تبقى هذه الخلية يقظة تعمل بانتظامٍ مُدهش لتؤمّن لك الحياة عندما تستيقظ. والسرّ أن هذا الجسد، جسدك، تعيش معه كل العمر إلّاأانه يعمل باستقلالٍ عنك، وهو لا يستشيرك أبداً، وقلّما تعرف أنت شيئاً عنه. لذلك ردّدت في كتابي “المعرفة تقودك الى الله”، أنه كلما غُصت في المعرفة، اقتربت من الله، واقتربت من أخيك الأنسان. لقد كان ابن سينا على حق عندما قال: “لقد درست الطب لأعرف الله”. يوم قرأت هذا الكلام للمرة الأولى اعتقدت أنه كلامٌ إنشائي فارغ. أما اليوم وبعد ستين سنة في عالم الطب والأبحاث فيه، أعرف عمق هذا الكلام ومعناه.

والرسالة التي يحملها البابا فرنسيس إلى العراق هي رسالة لبنان. الرسالة التي تَكلّم عنها سلفه الراحل البابا يوحنا بولس الثاني. الرسالة التي أصبحت هوية لبنان. هنا في هذه البقعة الصغيرة من الأرض، ورُغمَ كل الحروب، كانت ولا تزال تتعايش كل الديانات وجميع الحضارات. هنا في هذه الأرض وعلى الرغم من كل الحروب لا تزال المسيحية تُعانق الإسلام، ولا تزال حضارة الشرق تُعانق حضارة الغرب. لقد تمكنت الحروب من تدمير كل شيء إلّا أنها لم تتمكّن من تدمير الحضارة، وبقي لبنان وحده من كل دول هذا الشرق نموذجاً للتعدّدية الحضارية. لقد بقيت الحضارة، أما لبنان الدولة، لبنان المؤسسات، أصبح لبناناً مُزوّراً. من “اتفاق القاهرة” الى يومنا هذا نعيش في لبنانٍ مُزوَّر. من لبنان جمال عبد الناصر، إلى لبنان ياسر عرفات، إلى لبنان حافظ الأسد، إلى لبنان بشار الأسد، إلى لبنان الثورة الإيرانية الإسلامية، نعيش كذبة كبيرة. لقد حان الوقت أن نتحرّر من قشورنا، ونعترف أمام الله وأمام أنفسنا ان مسؤولية تزوير لبنان كانت مسؤوليتنا. ألَم نكن نحن من أفرز هذه الطبقة من السياسيين التي أوصلتنا إلى هنا؟ إن مسؤولية استرجاع لبنان الحقيقي هي مسؤوليتنا نحن؛ لذا يجب ان نثور على أنفسنا أولاً حتى لا نُعيد الخطيئة ذاتها ونفرز طبقة جديدة من السياسيين تُشبه هذه الطبقة التي تقبض علينا اليوم. وحدها الثورة الحقيقية تُحرّرنا من أنفسنا وتُحرّرنا من الطغاة. لذا جئنا نقول للثوار: إياكم من اليأس، عودوا الى الثورة.

ويسألوننا لماذا لا نذهب شرقاً؟ فجئت أسألهم. وهل تعرفون أنتم واحداً، شخصاً واحداً، مات وهو في طريقه هارباً إلى الشرق؟ كلّهم ماتوا وهم في طريقهم إلى الغرب. شخصٌ واحد من هؤلاء المعذبين لم يهرب إلى طهران أو بكين او موسكو. كلّهم هربوا إلى دول الغرب ومدنه. كلهم هربوا إلى الحرية. هربوا إلى دول تحترم الإنسان.

إن لبنان في قعرٍ عميق، ويُخطئ مَن يظن أنه لا يحتاج إلى دعمٍ دولي. من هذا المنطلق نحن ندعم البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي. وكنّا اقترحنا مؤتمراً دولياً من أجل لبنان، يُعقَد في  باريس وبرئاسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مقالٍ بتاريخ 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. ولكننا نود أن نقول إن المعركة الأساسية لتحرير لبنان هي هنا. في الداخل اللبناني، على الأرض اللبنانية. فاذا لم نقم نحن بمسؤولياتنا تجاه بلدنا، فلماذا يقوم الآخرون بمسؤولياتهم تجاهنا؟

إن لبنان يحتضر؛ ولكننا لن ندعه يموت. ستُعيده الثورة إلى الحياة، وسنبنيه من جديد.

  • الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث وأساذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى