المُتلاعِبُ بالإعلامِ اللبناني

مايكل يونغ*

نَشَرَ الموقِعُ الإلكتروني المُستقل “درج”، قبل أسبوعَين، مقالًا استندَ إلى جلسةِ الاستجواب التي عقدتها القاضية الفرنسية أود بوريزي في نيسان (أبريل) الماضي وخضع لها المصرفي اللبناني مروان خير الدين، صاحب بنك الموارد. وقد مَثُل خير الدين أمام بوريزي على خلفية الاشتباه بتقديمه وثائق مزوّرة إلى السلطات الفرنسية في إطار تحقيقاتها المتعلّقة بحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة.

وجّهت القاضية بوريزي اتّهامات إلى سلامة بارتكابِ سلسلةٍ من الجرائم المالية، بَيدَ أنَّ محورَ أسئلتها إلى خير الدين، على الأقل في الجُزءِ الذي تناوله موقع “درج”، ارتكز على عددٍ من الصحافيين. فخلال التحقيقات، لاحظ الفرنسيون أنَّ سلامة قدّمَ دفعاتٍ مالية إلى خمسة صحافيين أو معلّقين إعلاميين بعد بدء الأزمة المالية في العام 2019 عبر بنك الموارد، كي يدافعوا عنه علنًا على ما يبدو.

أوردَ المقالُ أنَّ خير الدين اعترفَ بأنَّ الآلية التي اعتمدها سلامة لتقديم الدفعات المالية إلى الصحافيين الخمسة كانت تهدفُ إلى إخفاءِ هذه التحويلات. فسلامة كانَ يُرسِلُ الأموال من حسابه الشخصي في المصرف المركزي إلى حساب بنك الموارد في المصرف المركزي، ثم يوجّه التعليمات إلى خير الدين في مكالمة هاتفية أو عبر تطبيق واتساب. وخير الدين بدوره كان يقوم بإيصال الأموال إلى الأفراد المُستفيدين.

يتم منذ فترة طويلة تداول أخبار عن قيام سلامة برشوة صحافيين ووسائل إعلام لتلميع صورته، لكن مقال “درج” أول من أكّد هذه الاتّهامات، مُسَلّطًا الضوء ليس فقط على الفساد والقصور الأخلاقي في الوسط الإعلامي اللبناني، بل أيضًا في المجتمع عمومًا.

لقد وقعتُ في أكثر من مناسبة ضحية انعدام المهنية، وحتى احترام الذات، من جانب بعض الزملاء الصحافيين. ففي العام 2019، أخذ الكاتب البارز في صحيفة “النهار” سركيس نعّوم مقالًا لي ونشره باسمه بالكامل من دون أن يتكبّد عناء نسبِه لي. كذلك، استخدمَت إحدى القنوات التلفزيونية الكبرى “أم تي في”، من دون إذنٍ مني أو حتى ذكر المصدر، مقالًا كتبتُه، وحوّلَتْه إلى مقطع فيديو قصير بثّته خلال نشرتها الإخبارية المسائية.

إنَّ مثلَ هذا السلوك طبيعي ومتوقّع في بلدٍ يُصفّقُ للاستسهال والطرق الملتوية المُختَصَرة. لطالما اعتبَر لبنان نفسه بلد المُمكن وعالَم الخطط الاحتياطية، ما يعكس مرونةً تساعد على شرح نفاد صبره إزاء المبادئ.

مع ذلك، ظلّت البلاد فترةً طويلة معقلًا محفِّزًا للحرية الإعلامية في الشرق الأوسط، حتى لو كان الظن السائد أن عددًا كبيرًا من الصحافيين يتلقّى رشاوى. والسبب في ذلك هو أن وسائل الإعلام استُخدِمت كأدواتٍ في التناحر السياسي، بمعنى أنها كشفت الكثير عن خصومها. فكان بإمكان المتابع الدقيق للأخبار أن يتعلّم الكثير إذا كان مُدركًا للأجندات السياسية للصحف أو القنوات التلفزيونية المتنافسة.

لقد تمتّع المشهد الإعلامي في لبنان، ولا يزال، بالتعدّدية إلى درجةٍ معيّنة، ومن شأن الإصغاء إلى جهاتٍ كثيرة أن يساعد على تكوين صورة دقيقة إلى حدٍّ ما بشأنِ ما يجري. ولكن ذلك لا يُغيّرُ حقيقةَ أنَّ ما يحدث بعيدٌ عن المثالية في الميدان الصحافي. فليس من واجب متابعي الأخبار أن يفكّكوا الشفرات كي يفهموا على نحوٍ أفضل ما يفكّر فيه المسؤولون أو ماذا يفعلون في الواقع.

خيرُ مثالٍ على ذلك هو التلاعب الذي كان يمارسه سلامة. فخلال العام 2019، كان الحاكم السابق لمصرف لبنان يُطَمئنُ الرأي العام إلى أنَّ البلاد لديها ما يكفي من احتياطاتٍ بالعملات الأجنبية لتجنّب الانهيار المالي. واستنادًا إلى هذه التطمينات، عمد كثرٌ إلى إبقاء أموالهم في المصارف اللبنانية، على الرُغم من أن المودِعين واجهوا صعوبةً متزايدة في سحب ودائعهم بالدولار الأميركي في ذلك العام. واليوم، هذه الثقة التي لم تكن في محلّها كلّفتهم على الأرجح خسارة كل شيء.

مزاعِمُ سلامة المُغرية ردّدها الصحافيون والمعلّقون الذين كانوا يتقاضون الأموال منه، والذين كانوا بالتالي متواطئين في خداع الرأي العام. لا يمكن اعتبار هذا السلوك مجرّد مثال آخر عن “المرونة اللبنانية”. بل هو ينطوي على تضليل جرمي.

إنه لأمرٌ مُعيب أن نرى الدرك الذي قد يصل إليه المجال الإعلامي في لبنان. لطالما كان هذا الميدان “خاضعًا للتأثير”، لكن ذلك لم يحُل دون وجود صحافة جيدة. اليوم، لا يزال ثمة صحافيون يتمتعون بالمصداقية ويؤدّون عملهم كما يجب، ولا يتقاضون أموالًا من السياسيين أو المسؤولين. ولكن يُخشى أنهم باتوا صنفًا في طور الانقراض.

الضوءُ المشرق الوحيد ينبثق من انهيار نموذج الأعمال الذي قامت عليه وسائل الإعلام بعد الحرب الأهلية – إذا صحّ استخدام مثل هذا التعبير للإشارة إلى هذه الممارسة المشينة. فقد ساهم المال السياسي المحلّي والإقليمي، طوال عقود، في تعويم عدد كبير من وسائل الإعلام، لكن ذلك لم يعد قائمًا. فقد جفّ المال السياسي. والآن تُبصر النور منشورات إلكترونية أكثر استقلالية، وتبحث عن وسائل مستدامة للاستمرار، لا عن الصدقات. ونذكر من الأمثلة الناجحة في هذا المجال أن صحيفة “لوريان لوجور” الناطقة باللغة الفرنسية ذات الإرث العريق، اعتمدت نموذجًا جديرًا بالثناء قائمًا على الاشتراك عبر الإنترنت.

يقدّم موقع “درج” مثالًا متميّزًا آخر عن هذا المسار الجديد. وهو يضمّ صحافيين من وسائل إعلامية تقليدية، ويترك لهم الحرية من دون فرض إملاءات سياسية عليهم. لا بدّ لي أن أذكر أن كثرًا من هؤلاء الصحافيين هم أصدقاء لي، وحرّيتهم هي أيضًا حرّيتنا.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى