لبنان… “لعبةُ” الإنتظار أو الطريقُ السريع للإنهيار

ناصيف حتي*

يتسارع مَسَارُ الانهيار الحامل لانفجارٍ إجتماعىٍّ خطير، حذّر منه كثيرون مراراً، فيما تعيش المؤسسة السياسية الحاكمة، فى ظلّ استفحال الأزمة، حالةً من النكران لهذا الواقع ولتداعياته الكارثية على الجميع. فى ظلّ هذا الوضع المأسوي نشهد “حرب” المواقف الحادّة بين أطراف هذه المؤسسة وتبادل الاتهامات والتصريحات الشعبوية التى تُحمّل الآخر، الشريك فى السلطة، خصم يوم وحليف فى يوم آخر، مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع فى ظل حروب التفسيرات الدستورية. يعيش المواطن اللبنانى أيّاً كان انتماؤه السياسي أو الديني أو المذهبي أو المناطقي فى حالةٍ من المهانة اليومية بحثاً عن القوت والدواء له ولأسرته فى حاضرٍ قاتمٍ ومُستقبل مفقود إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه. حالة النكران هذه عند المؤسسة السياسية الحاكمة تبرز أيضاً فى لعبة عض الأصابع، كلٌّ يراهن على قبول الآخر، خصم اليوم، لشروطه لوقف الانهيار. كما يراهن كثيرون من هؤلاء على الخارج، وهى سمة مُستقرة في السياسة اللبنانية: على انتصار “الحليف” أو “الصديق” فى الصراعات الإقليمية الدائرة أو حصول تفاهمات لمصلحة الطرف اللبناني المعني تُترجَم سياسياً فى الصراع الداخلى المُحتَدِم. وللتذكير فإن حروبنا الأهلية المختلفة كان أكثر وقودها ومسبباتها يكمن في اصطفافاتهم الخارجية، العقائدية والسياسية والمصلحية بحيث صار لبنان ملعبا لتلك الصراعات التى تغذّت على الخلافات الداخلية، كما غذت هذه الخلافات.

وفى إطار “حروب” التفسيرات الدستورية حول الصلاحيات بشأن المسؤولية فى تشكيل الحكومة وفى تركيبتها نعود إلى “حرب” حول “تفسير اتفاق الطائف” الذي صار جُزءاً من الدستور اللبناني عبر التعديلات التى أُدخِلَت عليه: البعض يريد إسقاطه من دون الإعلان عن ذلك والعودة إلى ما قبل الطائف، باعتبار أن موازين القوى الحالية، داخلياً وخارجياً، صارت تسمح بحصول هذا الأمر. البعض الآخر يتمسّك باجتهادات أو تفسيرات قانونية للتمسّك بموقفه الذى يستند حسب هذا الرأي إلى الاتفاق المُشار إليه. وللتذكير فإن الاتفاق منذ دخوله حيّز التنفيذ كان دوما بحاجة إلى “رعاية” قامت بها سوريا حتى خروجها من لبنان. مردّ ذلك، للتذكير أيضاً، كان الصراع المحتدم فى إطار نظام فيدرالية المذهبيات السياسية القائم بين المكوّنات السياسية لهذه الفيدرالية والحاجة إلى “مايسترو” لترتيب وتنظيم واحتواء هذا الصراع. حقيقة الأمر الذى يجب الأخذ به فى هذا الخصوص أنه لا يمكن العودة إلى ما قبل الطائف كما يدعو البعض جهاراً أو إيحاء، ولكن يجب المضي فى تطوير هذا الاتفاق للذهاب نحو الدولة المدنية بغية التخلّص من منطق المحاصصة وسباق الديموغرافيا أو سباق التحالفات الخارجية الذي لا يوفّر حلاً مُستقراً للأزمات والحروب اللبنانية القائمة بأشكالٍ وعناوين مختلفة. منطق يستدعي دوما التدخّل الخارجي ولو تحت عناوين أو أشكال مختلفة.

لكن فى ظلّ الإنهيار المُتسارع لا يُمكن لأحدٍ تحمّل “ترف” البحث فى تطوير النظام قبل وقف الانهيار الذى سيطيح إذا ما استمر بكلّ مكوّنات الدولة والمجتمع ولا يبقى شيء يتقاتلون عليه باسمنا. وللتذكير فإن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) تُشير إلى ارتفاع معدل الفقر من ٢٨  في المئة إلى ٥٥ في المئة بين العامين ٢٠١٩ و٢٠٢٠ مع زيادة نسبة الذين يعيشون فى فقر مدقع من ٨ في المئة إلى ٢٣ في المئة خلال لفترة عينها. ومع التذكير أيضاً أنه فى النصف الأول من هذا العام فإن هذه النسب فى ظل الانهيار الاقتصادى الحاصل قد شهدت من دون شك ازدياداً هائلاً. ويُعبّر تصريح جوزيف بوريل الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي خلال زيارته إلى لبنان عن هذا الوضع المأسوي بقوله: “إنها أزمة داخلية (مُوجِّهاً كلامه إلى المؤسسة السياسية) أنتم صنعتموها وأن لا مساعدات للسلطات اللبنانية بدون إصلاحات”. وهذا كلامٌ صار يُردّده جميع أصدقاء لبنان. فلم يعد من الممكن التلطّي وراء اتهام الخصم فى الداخل أو فى الخارج عن المسؤولية بشأن طريق الانهيار السريع الذى نسلكه.

تساءلنا فى نهاية العام الماضي فى مقالةٍ سابقة حول شروط الإنقاذ، ودَعَونا منذ أشهر ثلاثة فى مقالةٍ أخرى لإنقاذ لبنان قبل فوات الأوان. المطلوب لذلك هدنة بين المتقاتلين تحت عناوين كبيرة؛ وقف الاشتباك والقبول بهدنة من أجل تشكيل حكومة مهمة، لا حكومة محاصصة، تحت مسمى حكومة اختصاصيين تحمل فى بنيتها عناصر شللها وفشلها. حكومة فريق عمل مُتجانس ومشروع إصلاحٍ هيكلي مُتكامِل وشامل لوقف الانهيار وإطلاق المسار؛ مسار الإنقاذ الوطنى، طريق دونه عوائق كثيرة بدون شك ولكن لا بديل واقعياً مُمكناً من ذلك. فإذا لم تفعلوا ذلك فعلى ماذا تتقاتلون غداً؟ على أشلاءِ وطنٍ لم تصونوه أم على بقايا دولةٍ لم تُحافظوا عليها ولم تسمحوا أساساً بقيامها.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” – (لندن) – توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”- بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى