الحَوثِيُّون وغزّة: رسائلُ إيران للخليج والبحر الأحمر

محمّد قوّاص*

لا يَجِدُ خبراءُ الشؤون العسكرية في تدخّلِ جماعة الحوثي في اليمن في الحرب الإسرائيلية ضد غزة أيّ اختلالٍ مهم في موازين القوى. وعلى الرُغم من تهديداتٍ إسرائيلية بالردِّ على هجمات الحوثيين الأخيرة، إلّا أنَّ ذلك الردّ، المُستَبعَد في الأولويات الإسرائيلية حاليًا، لن يؤدّي إلى توسيعٍ مُحتَمَلٍ للحرب داخل الإقليم.

يتّسِقُ حراكُ الحوثيين ضدّ إسرائيل مع الخطاب الإيراني المُتَدَرِّجِ بحذر في مُقاربةِ الحرب التي اندلعت عقب قيام “كتائب القسّام”، الذراع العسكرية لحركة “حماس”، بعملية “طوفان الأقصى” في غلاف غزة في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وفيما ردّد ويردّد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان التحذير من أنَّ استمرارَ الحربِ قد يؤدّي إلى توسيعِ نطاقها، فإنَّ الحوثيين في اليمن، كما “حزب الله” في لبنان والفصائل الموالية في العراق، منضبطون داخل تحذيرات طهران، مُهَوِّلون مُتَوَعِّدون بتدخّلهم، على نقيض ما يدعو إليه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في جولاته في المنطقة بعدم خروج الحرب عن ميدانها الغَزّي.

تعتبر إسرائيل أنَّ انخراطَ “حزب الله” من لبنان في الحرب يُعدُّ تطوّرًا مُهَدِّدًا وخطيرًا تستبق إسرائيل احتمالاته برفع مستوى التهديد المُضاد، بما في ذلك تدمير “حزب الله” ولبنان معًا. وتُحذّرُ الولايات المتحدة من تمادي الفصائل العراقية في استهداف مواقعها في العراق أو سوريا وتقوم بالردّ أحيانًا ردًّا جراحيًا محسوبًا، إلّا أنَّ الحراك العراقي لا يرقى إلى مستوى أعلى من التحرّشات. وتُنَفّذُ تلك الهجمات بالأغلب لأغراضٍ داخلية أيضًا وبأساليب شعبوية، سواء في التنافس مع التيار الصدري في جمع الحشود داخل العاصمة أم في التدفّقِ المُلتَبِس والمُغرِض نحو الحدود مع الأردن (وليس سوريا) طلبًا للعبور نحو فلسطين.

ويُشبِهُ تمرينُ الفصائل المُستفزّ حيالَ الأردن التمرين نفسه الذي يمارسه الحوثيون حين أعلنوا أنهم طلبوا من المملكة العربية السعودية فتح الحدود أمام قواتهم للتوجّه نحو فلسطين. وتُمثّلُ تلك التمارين مزاجًا إيرانيًا سلبيًا تجاه دول المنطقة تؤكّدُ مخاوف لطالما عبّر عنها الأردنيون، وبشخص الملك عبد الله الثاني بالذات، من أخطارِ الميليشيات التابعة لإيران على الحدود السورية-الأردنية، ومن خططٍ إيرانية قديمة-جديدة ضد المملكة الهاشمية.

والواضح أنَّ الحوثيين يمارسون نهجَ توتّرٍ وِفقَ أجندةٍ إيرانية مقصودة ومحسوبة في العلاقة المُلتَبسة مع السعودية، على الرُغم من أجواء الودّ والتفاؤل التي بثّها اتفاقُ بكين الذي أُبرم برعاية الصين بين طهران والرياض في 10 آذار (مارس) الماضي.

وقد أعلن المتحدّث العسكري للحوثيين في 31 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أن “قواتنا المسلحة أطلقت مجموعةً كبيرة من الصواريخ البالستية وصواريخ كروز وعددًا كبيرًا من الطائرات المُسَيَّرة على أهدافٍ مختلفة للعدو الإسرائيلي”. جاء هذا الإعلان بعد قيام الحوثيين على مدى الأسابيع اللاحقة لعملية “حماس” بثلاث هجمات باتجاه إسرائيل. وقد عاد وأعلن في 7 من الشهر الجاري عن رزمة هجمات رابعة ضد “أهداف حسّاسة” في إسرائيل.

صحيح أنَّ حراك الحوثيين العسكري تجاه إسرائيل يندرجُ ضمن سياق الأوراق التي تُحرّكها إيران، غير أن للمناسبة أصداءً وتداعيات بعيدة من حدث الحرب في غزة.

لا يبتعد استعراض الصواريخ البالستية والمسيرات بالمناسبة الغَزّية من سياقٍ شديدِ الالتصاق بالشأن اليمني، لجهة مساره ومصيره. يَشُدُّ الحوثيون عصبًا داخليًا بدأ يترهّل برَفعِ شعاراتِ العداء لإسرائيل في لحظةِ إجماعٍ يمني ضد حرب إسرائيل في غزة، ويبيحُ لهم فَرضَ جبايةٍ مالية تحت مُسَمَّى التبرّع لغزة وإطلاق حملة تجنيدٍ في صفوف فئة المُهَمَّشين من ذوي البشرة السوداء، بحجّة نصرة فلسطين، لتجنيد مقاتلين جدد إلى صفوفها.

وإذا ما كان الاستعراض الحوثي مُرتَبطًا بالسعي للتأثير الدائم في موازين القوى الداخلية، لكنَّ للأمرِ رسائلَ إقليمية دولية، سواء تلك المُتَعَلِّقة بأمنِ المضائق والممرّات المائية والملاحة الدولية، أم تلك المتعلّقة بالأمن الاستراتيجي لدول الخليج، كما بصراعِ القوى في البحر الأحمر. ولئن اضطرَّ بلينكن لزيارة بغداد والاجتماع مع رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني لبحث مسألة استهداف فصائل موالية لإيران قواعد فيها قوات أميركية في العراق وربما تحميله رسالة إلى طهران، فإنَّ الحوثيين يُعيدون تقديم أنفسهم، بهذه المناسبة، رقمًا صعبًا في المعادلة اليمنية ويُوَجّهون رسائل إيرانية وَجَبَ على واشنطن أخذها دائمًا بالاعتبار في مقاربة أمن المنطقة.

وإذا ما يعيش اليمن حالة اللاحرب واللاسلم ويُباشرُ الحوثيون مفاوضات مع السعودية وصفتها الرياض في أيلول (سبتمبر) الماضي بـ”الإيجابية”، غير أنَّ عدمَ التوصّل إلى مرحلةِ الاتفاق والتسوية وتَشَوُّه مسار التفاوض بعملياتٍ عسكرية كتلك التي أدّت في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي إلى مقتل 3 جنود بحرينيين في هجومٍ استهدفَ مواقع قوة دفاع البحرين جنوب السعودية، يُشرّعُ الأبوابَ دائمًا أمام ممارسة تمارين عرض القوة والعضلات بغرضِ تحسين شروطهم داخل أيّ صفقة أو معادلة جديدة.

صحيحٌ أنَّ لاتفاقِ بكين السعودي-الإيراني مفاعيل يمنية ما زالت دون مستوى المُنتَظَر من علاقاتِ انفتاحٍ وودٍّ وتعاونٍ بين الرياض وطهران، إلّا أنَّ جماعةَ الحوثي، ومن ورائها طهران واتفاق بكين نفسه، تُمَنّي النفسَ بأن تُحَسِّنَ التحوّلات إلى أقصى حدٍّ من مكانتها وحصّتها ومساحة نفوذها داخل أيّ تسوية مفترضة مع باقي أفرقاء الصراع في اليمن.

والحال، فإنَّ المسافةَ البعيدة التي تفصل مكان انطلاق صواريخ الحوثي أو مُسَيَّراته عن هدفها في إيلات أو غيرها في إسرائيل، تُمَكّنُ الدفاعات الإسرائيلية والأميركية من إسقاطها بسهولة. غير أنَّ مَسارَ تلك الأسلحة يمرُّ داخل المنطقة مُذَكّرًا كل دولها، لا سيما السعودية ودول الخليج كما البلدان المُطِلّة على البحر الأحمر، بامتلاكِ الجماعة في اليمن والحُكم في إيران قدرات تدمير وتخريب عالية لإيذاء المنطقة والعبث بتوازناتها. ويجري الأمر وفق سيناريو تقليدي يتكرّر تعتمده طهران في كلِّ ميادين نفوذها في الشرق الأوسط لتسويق مقارباتها الديبلوماسية المعتادة والتي لطالما تقترح بشكلٍ مُمّل أن تكونَ شريكةً في فكفكةِ عُقَدٍ وحلِّ نزاعاتٍ تقف وراءها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى