حَربُ غزَّة: نَكسَةٌ استراتيجِيّةٌ لإسرائيل ومأزقٌ سياسيٌّ للغرب

سليمان الفرزلي*

ظنَّ كثيرون في العالم، بعد الحربِ الواسعةِ والخائبةِ التي شَنَّتها إسرائيل على لبنان في صيفِ العام 2006، أنها سوفَ تَنهضُ من خَيبةِ جيشها، وتستعيدُ هيبتها المُكتَسَبة في حروبها السابقة مع الجيوش العربية، وهي في زخمٍ جديدٍ يتيحُ لها توسعة مشروعها، من خلال التطبيع المجّاني والتحالفات الفَوقية مع عددٍ من الدول العربية، مُترافِقًا ذلك مع اندفاعةٍ استيطانية غاصبة في ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. وقد نشأ هذا الانطباعُ الخاطئ بعد المراجعة الشاملة التي أجرتها لجنة “فينوغراد” للتحقيقِ في أسبابِ النكسة التي مُني بها الجيش الإسرائيلي في لبنان.
بل إنَّ بعضَ العرب، أو مَن كانَ منهم مُعاديًا للمقاومة (إسلامية ووطنية)، ومَن بقي مُشَكّكًا بجدواها، اعتبر ما قاله الأمين العام ل”حزب الله” اللبناني في مطلع القرن، بعد تحرير الجنوب وانسحاب الجيش الإسرائيلي وأتباعه من الشريط الحدودي، بأنَّ إسرائيل ’أوهى من بيت العنكبوت’، هو مجرّد كلامٍ لرفع المعنويات. لكن التغييرات التي حدثت بعد ذلك، والمناورات العسكرية التي جرت على أساسها، لم تستطع أن تُقنِعَ المراقبين الجدّيين بأنَّ الجيشَ الإسرائيلي بإمكانه أن يُحقّقَ ميدانيًا أيَّ اختراقٍ نوعيٍّ وَاضحٍ وحاسم. أو يسمح له بخوضِ حربٍ شاملةٍ على جَبهتَين في وقتٍ واحد.
والحقيقة أنَّ هذه الثغرة التي ظهرت في النظام العسكري الإسرائيلي، انكشفت قبل نشوء “المقاومة اللبنانية والإسلامية”، وقبل نشوءِ المقاومة الفلسطينية في غزَّة. فقد انكشفت لأول مرة على يد الجيش المصري في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وهو الجيش الذي أعادَ الرئيس جمال عبد الناصر تركيبه بعد هزيمته المدوية في حرب حزيران (يونيو) 1967. ويقول محمد فايق وزير الإعلام المصري السابق في حكومة عبد الناصر، في كتاب مذكراته بعنوان “مسيرة تحرٌّر”، إنَّ الجيش المصري كان جاهزًا لمواجهة الجيش الإسرائيلي ودحره في حياة عبد الناصر الذي حدَّد العام 1971 موعدًا للمنازلة الكبرى مع إسرائيل، لكن خليفته أنور السادات أرجأ ذلك مُفَضِّلًا استرجاع الأراضي المصرية المحتلة في سيناء بالمفاوضات السلمية من طريق الولايات المتحدة. وما يؤكّده محمد فايق أيضًا أنَّ السادات أبلغ الصحافي الناصري المشهور محمد حسنين هيكل أنه أرجأ الحرب مع إسرائيل في موعدها المقرر من عبد الناصر حتى لا يدَّعي الناصريون الفضلَ في النصر. وكان ذلك مؤشِّرًا مُبكِرًا إلى عزم السادات إزاحة الناصريين من المناصب العسكرية والسياسية الحسّاسة في الدولة.
وكُنتُ بنفسي في ربيع العام 1974، قُمتُ بزيارةٍ صحافية الى سيناء المُحَرَّرة عبر قناة السويس، من خطِّ بارليف على القناة إلى عيون موسى، مقرّ القيادة العسكرية الإسرائيلية السابقة ومرابض مدفعيتها المُرتَدّة التي دمّرت المدن المصرية على القناة، وشاهَدتُ ما جرى في تلك الحرب على الطبيعة، وتحدّثتُ حول الموضوع مع الفريق حسن أبو سعدى، قائد الجيش الثالث الذي حاول الجنرال الإسرائيلي آرييل شارون مُحاصَرته وقطع إمداداته من خلال ثغرة الدفرسوار. وشاءت الظروفُ أن يَتَعَيَّنَ أبو سعدى بعد تسريحه من الجيش سفيرًا لمصر في لندن حيث كان لي معه لقاءٌ في أكثر من مناسبة. وقد كتبتُ عن هذا الموضوع مَليًّا في كتاب سيرتي الذاتية تحت عنوان “على خط بارليف”. وكان واضحًا لكلِّ مَن شاهدَ ذلك المسرح المُهيب لمعركة سيناء، أنَّ الصورةَ السابقة للكيانِ الصهيوني، من حيثُ أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر، التي حاولَ الإعلام العالمي ترسيخها في أذهان الشعوب العربية، قد ولَّت الى غير رجعة. فالحروبُ الإسرائيلية السابقة، أي الحروب الخاطفة والحاسمة على جبهاتٍ مُتعَدِّدة في وقتٍ واحد، كانت في واقعِ الأمر حروبًا محميًّة أشبه بالجريمة المُنَظّمة المحميَّة من الشرطة.
وما ظهرَ في حرب لبنان في العام 2006، وما أكّدته حربُ غزَّة في هذه الأيام، أنَّ مجرَّد الصمود الذي لا يلين لمدة طويلة نسبيًا في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية، يُشَكّلُ بحدِّ ذاته نكسةً استراتيجيةً للكيان الصهيوني، على الرُغمِ من طاقته التدميرية المدعومة من حلفائه في الغرب وحول العالم. لكن تلك الطاقة التدميرية لها أكثر من انعكاسٍ سلبي، كونها تستهدف المدنيين والبنى التحتية من غير تمييز، مما شكَّل ويُشكِّل مأزقًا سياسيًا لحلفاء إسرائيل وداعميها ومُزَوِّديها بوسائل الدمار الشامل.
وليس شيئًا بسيطًا أن يُهدِّدَ بعضُ المسؤولين المتطرّفين في إسرائيل باستخدام الأسلحة النووية ضد قطاع غزَّة المقاوم، لأنه مؤشّرٌ إلى مدى الإحباط الذي أصاب الكيان الصهيوني، وما أفرزه من ذعرٍ في المجتمع الإسرائيلي ذاته. وهناك قرائنُ عديدة عن إمكانية اللجوء الى مثل هذا الخيار، منها على وجه الخصوص التقارير التي تشيرُ الى تدميرِ مرفَإِ بيروت بصاروخٍ يحملُ رأسًا نوويًا من اليورانيوم المُنَضَّب.
ويمكنُ القول في المحصلة أنَّ ما يُعتَبَرُ من مزايا القوة في الكيان الصهيوني، وهو ما لديه وما يأتيه من طاقة تدميرية فائقة، أصبح في واقع الأمر عبئًا عليه وعلى حلفائه، لأنَّ تلك الطاقة التدميرية باتت في نظر جميع شعوب العالم حالةَ إبادةٍ مُنكِرة ومُستَنكَرة، أفقدت كلّ مؤيدي إسرائيل وداعميها رصيدهم الأخلاقي والإنساني والمعنوي.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني التالي: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى