عالَمٌ حَقيرٌ وظالِمٌ

عرفان نظام الدين*

عاصرتُ معظم أحداثِ وتطوّرات القضية الفلسطينية منذ بدايتها حتى يومنا هذا، ولم أشهد مثل هذا الزمن حقارةً وانحيازًا وظُلمًا فادحًا. ولم أرَ مثل هذا الانحياز للمُعتَدي الظالم بشكلٍ علني، ولم نُجابَه بمثلِ هذه الوقاحة والازدراء والرفض الرسمي على أرفع المستويات، وبمشهدٍ يُمثّلُ هذا الاستسلام والفشل وغياب التضامن العربي والموقف العادل ولو بصيغةِ البيانات البالية نفسها من شجبٍ واستنكار وتنديد.
ولا أُعمّمُ ولا ألومُ الشعوب لأنّها مُستَضعَفة ومنزوعة الدسم ومُحاصَرة بالخوف والفقر والحاجة والالتفات إلى تحصيلِ فتات لقمة العيش. كُنّا نشهدُ كلَّ يوم ثورات ومظاهرات ومواقف قوية يهتز لها العالم وتُخيفُ الحُكّام من ردود فعل تطيح بمصالحهم أما اليوم فلم نسمع إلّا أوامر وإدانات ودعوات لذبح أهلنا في غزة الصامدة وإعدام الأطفال والنساء وتحميل الشعب الفلسطيني المسؤولية الكاملة عن أحداث هجوم “حماس” على المستوطنات الإسرائيلية وقتل وإصابة وأسر المئات.
ولنقل جدلًا، أنَّ “حماس” انفردت بالقرار والتنفيذ والممارسات وعدم استشارة احد، لكن هذا لا يُحمّل المسؤولية للشعب الفلسطيني بل هي محصورة بصاحب العلاقة الذي يتحمل المسؤولية عن التبعات والنتائج وعدم تبرير الغارات والهجمات الوحشية التي حصدت أرواح الآلاف من الأطفال الأبرياء والمدنيين الذين لا ناقة لهم ولاجمل بما جرى، وهدم ألاف المساكن والأبراج والبنى التحتية والعالم يتفرّج ويطلب المزيد من دماء الاطفال لمصلحة مصاصي الدماء في عصر جريمة العصر بلا منازع.
ويردُّ مَن يُبرّرُ ما جرى بأنَّ مَن شاركَ في الهجوم من أحفاد نكبة فلسطين وعاشرته كلّ آلامها ومظالمها، ويرون كل يوم بأُمِّ الأعين مَن استولوا على اراضيهم منذ أكثر من ٧٥ سنة بينما هم يعيشون حياة الفقر والرعب وكل آلام هذه الحياة. البائسة.
كنا نفرحُ في أحداثٍ سابقة عندما نسمع عن مبادرات سلام ومؤتمرات قمة ومفاوضات، أما اليوم حتى الدعوة لوقف إطلاق النار صارت مُحَرَّمة، والعناد يصر على الاجتياح البري وتدمير البنية التحتية وتهجير ابناء غزة إلى سيناء ضمن مخططٍ مُعَدٍّ للتهجير الشامل والترانسفير.
في ظل هذه الأجواء العفنة لم يعد يبقى شيء من ركام الماضي إلّا أن نرمي كل مخازيه في القمامة، ونقول وداعًا لما يُسَمّى بالعالم الحر والمجتمع الدولي والراي العام الدولي، ووداعًا للأُمم المتحدة والمنظمات التابعة لها. ووداعًا لجامعة الدول العربية والصمود والتصدّي والمقاومة والممانعة وللتضامن العربي ووحدة الصف، ووداعًا للدجل والمزاعم والخطابات الحماسية والشعارات الزائفة ووداعًا لمنظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المسؤولة عن التشرذم وشق الصف الفلسطيني.
أما أنتم يا أبناء غزة، شيوخًا وأطفالًا ونساءً، فلكم الله الحامي والنصير … وسامحونا أو إلعنونا لأننا قصّرنا بحقّكم، ولم نمد لكم يد العون، وبخلنا عليكم بحبة دواء وبقطرة ماء … سامحونا لأننا لم نُقدّم إلّا الدموع ونحن نبكي كالنساء ُملكًا مضاعًا لم نحافظ عليكم وعليه كالرجال … والقصة لم تنتهِ بعد والآتي أعظم وأشدّ ضراوة … واعظم مما شهدته غزة.

  • عرفان نظام الدين هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي عربي مقيم في لندن. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى