إحتجاجاتُ الحِجابِ الإيرانية هي من صُنعِ رئيسي نفسه!

شجّع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي شرطة الأخلاق (دوريات التوجيه) على العودة إلى الشارع لفرض الحجاب الإلزامي على النساء لتعزيز إدارته المتذبذبة. لكن الذي حدث كان العكس تمامًا.

مظاهرات الحجاب: هددت أسس الجمهورية الإسلامية.

كوروش زياباري*

تراجَعَت الاحتجاجاتُ نسبيًا على الصعيد الوطني في إيران التي سبّبتها الوفاة المأسوية لمهسا أميني، الشابة الكردية البالغة من العمر 22 عامًا، التي يُعتَقَد على نطاقٍ واسع أنها تعرّضت للضرب على أيدي شرطة الآداب العامة (أو دوريات التوجيه) في البلاد بسبب ارتداء الحجاب بشكلٍ فضفاض، على الرغم من أن نوباتَ غضبٍ واحتجاجاتٍ مُتفرّقة ما زالت تندلع في حرم الجامعات وفي بعض الأحياء في المدن الكبرى.

خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، شهدت إيران حلقاتٍ غير مسبوقة من الهلع والفزع: تعرّضت جامعة النخبة في طهران، حيث نظّم الطلاب احتجاجاتهم، للحصار لمدة نصف يوم؛ هرع وزير العلوم والبحوث والتكنولوجيا في الحكومة، محمد علي زولفيغول، إلى الحرم الجامعي لرفع دعوى تأديبية ضد الطلاب الناشطين ومعاقبتهم؛ قوات الأمن أطلقت العنان لأفرادها لممارسة العنف والقمع ضد أشخاصٍ عشوائيين في الشوارع حيث ضربتهم بالهراوات؛ تم اعتقال ما لا يقل عن 40 صحافيًا لمجرّد قيامهم بعملهم؛ وأدّى التعتيم المروع وقطع الإنترنت إلى قطع الناس عن أحبائهم والعالم الخارجي؛ وأكثر.

منذ إنشائها في العام 1979، تعاملت الجمهورية الإسلامية مع مفهومِ الحجاب، الزي الإسلامي للمرأة، بإلحاحٍ مُفرط وقضيّة مُلحّة لا تنتهي صلاحيتها. في العام 1983، جعل البرلمان الإيراني ارتداء الحجاب إلزاميًا رسميًا ونصّ على عقوبةٍ تصل إلى 74 جلدة للنساء والفتيات اللواتي لا يرتدين الزي الديني في الأماكن العامة. تم تعديل القانون لاحقًا بفرض غرامة مالية وحكم بالسجن على المُخالِفات. فُرِضَت هذه القيود بإصرار منذ ذلك الحين. الواقع أنه لا يُمكن في أيِّ مكان في العالم التشريعي للجمهورية الإسلامية تحديد قانون تعتبره الحكومة ذا أهمية مُماثلة.

كانت هناك مُنعطفاتٌ في تاريخ الجمهورية الإسلامية عندما توقّفَ الالتزام بالحجاب أن يكون أحد الاهتمامات المحلية الأساسية للحكومة. خلال فترة حكم الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي من 1997 إلى 2005، كان من غير الشائع بالنسبة إلى الحكومة ووسائل الإعلام التي تديرها الدولة إلقاء محاضرات حول ضرورة الحجاب الإلزامي، ولم تكن القيود شديدة، وتميزت بآليات إنفاذ أقل تدخّلًا وفسحة أكبر للمرأة لاتخاذ قرارات بشأن مظهرها. لكن حتى في تلك الفترة، لم يتمّ عَكس الحجاب الإلزامي كعقيدة. كانت الميزة الوحيدة هي أن الشابات قد وجدن طرقًا لارتداء أزياءٍ ملوّنة وأنيقة ضمن عنوان ما هو مسموح به.

مع انتخاب إبراهيم رئيسي رئيسًا لإيران في العام 2021، تم اعتماد خطاب جديد يُمثّل تكرارًا نادرًا لنهج الحكومة تجاه أسلمة المجتمع. على الرغم من أن شائعاتٍ مليئة بالسخرية كانت تدور حول خطط المرشح رئيسي المُرتَقَبة لإقامة جدران على الأرصفة للفصل بين الذكور والإناث من المشاة، حتى تلك المخاوف بشأن رجل دين متشدّد يستعدّ لإحداث فوضى في الحريات المدنية وجعل حياة النساء جهنّمًا لم تكن كافية لتشجيع الإيرانيين، الذين أصيبوا بخيبة أمل، على التصويت لمنافسه الوسطي الوحيد والحيلولة دون انتخابه رئيسًا.

في انتخاباتٍ غير تنافسية بشكل أساسي سجّلت نسبة إقبال منخفضة جدًا بلغت 48.8 في المئة، حيث أدلى 26 في المئة فقط من الناخبين المؤهلين في العاصمة طهران بأصواتهم، حقق رئيسي فوزًا خاليًا من المتاعب، وكانت السلطات في جميع الهيئات المُنتَخَبة وغير المُنتَخَبة هيمن عليها المحافظون المُتشدّدون. ولم يتنصّل علنًا أبدًا من التكهنات بأنه سيُعيد تنشيط دوريات شرطة الأخلاق الخاملة نسبيًا إذا تم انتخابه، وقالت ابنته ريحانة سادات رئيسي فقط في مقابلة تلفزيونية خلال موسم الحملة الانتخابية إن والدها لن يمضي قدمًا في أجندة الفصل بين الجنسين وهذا كان ضعفه هو كونه رجلًا لطيفًا جدًا.

ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل بعد تنصيب رئيسي حتى أصبحت المخاوف حقيقة واقعة، ومثلما بدأت طالبان مهمتها في بناء الدولة في أفغانستان من خلال إخضاع النساء، قرر الرئيس الإيراني الجديد بدء ولايته كرئيسٍ تنفيذي بحملةٍ مُتعدّدة الجوانب لإعادة حقوق المرأة الإيرانية إلى حقبة الثمانينات. في تلك السنوات المُظلمة، كما يتذكّر معظم الإيرانيين بمرارة، بسبب الحمى الثورية الشديدة، كانت النساء يتعرضن للاعتداء التعسفي في الشوارع بسبب ظهور بعض خصلات شعرهن؛ كان الحراس يقومون بالاقتراب من الأزواج الذين يسيرون معًا ومُساءلتهم لشرح وتوضيح علاقاتهم؛ كان لا يمكن لسائقي السيارات تشغيل الموسيقى على أجهزة الراديو الخاصة بهم إذا كان من الممكن سماعها من الخارج؛ وكان لا بدّ من تهريب شرائط “في أتش أس” (VHS) للأفلام الهندية والأميركية إلى المنازل للالتفاف حول الرقابة الصارمة التي تستهدف الترفيه.

مع صعود رئيسي، بدأت منصات وسائل التواصل الاجتماعي لوكالات الأنباء التابعة للحرس الثوري الإسلامي إطلاق دعوات حول الحاجة إلى تأديب النساء اللواتي يرتدين “الحجاب السيّئ”، وبدأ مسؤولو الإدارة المنافسة حول مَن يُمكنه الإدلاء بأكثر التصريحات تحريضيًّا حول الحجاب.

في أيار (مايو)، أدلى زولفيغول، وزير العلوم، بتصريحاتٍ مفاجئة حول الزي الجامعي المناسب في خطابٍ يُفتَرَض أنه كان للاحتفال باليوم العالمي للاتصال والعلاقات العامة في جامعة الزهراء، قائلًا إنه “حتى في البلدان المتقدّمة، لا أحد يدخل الحرم الجامعي مُرتديًا ملابس البحر”. لم يكن من الواضح ما الذي كان يشكو منه زولفيغول، وتساءل العديد من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي عمّا إذا كانت أي طالبة قد شوهِدت في أيِّ وقت مضى في مبنى إحدى الجامعات الإيرانية دون حجاب وفستان طويل فضفاض، ناهيك عن ارتداء ملابس السباحة.

في عهد رئيسي، مُنِحَت مبادرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –وهي كيانٌ ديني مُكَلَّف بتعزيز ما تعتقد السلطات أنه أسلوب الحياة الإسلامي المثالي والذي كان في الغالب مؤسسة هامشية ومُهمّشة خلال إدارة روحاني– إنعاشًا جديدًا وموازنة قدرها 1180 مليار ريال (حوالي 3.9 ملايين دولار، اعتبارًا من أيلول/سبتمبر) للسنة المالية 2022-2023. بدأت المبادرة، المُكَوَّنة من أكثر العناصر رجعية في الحكومة، في إصدار القوانين واحدًا تلو الآخر حول كيفية ارتداء النساء في أماكن العمل الحكومية والأماكن العامة الأخرى. لكن لم يكن مظهر النساء فقط هو ما يثير القلق: فقد تم تحذير الموظفات من إجراء مُحادثاتٍ غير ضرورية مع زملاء العمل الذكور حول مواضيع لا تتعلّق بالعمل، ومهما بدا الأمر سرياليًا، فقد تم تثبيطهن عن مخاطبة الزملاء الذكور باستخدام ضمائر المفرد لأنه باللغة الفارسية، يُضفي استخدام ضمائر المفرد الألفة.

وضَمَنَت سلطات هذه الهيئة الدينية دعم الرئيس الكامل –قال رئيسي لأعضائها في اجتماع أنه ينبغي عليهم أن يكونوا حازمين في التمسّك بالقانون وألّا يتعرَّضوا لضغوطٍ من “الأعداء”– حيث احتضنت الابتكار في إيجاد تقنياتٍ جديدة لكيفية تعزيز الحجاب الإلزامي والتأكد من تطبيقه بأكبر قدر ممكن من الصرامة. وأوصت هذه السلطات بضرورة اكتشاف النساء اللواتي يرتدين “الحجاب الضعيف” في وسائل النقل العام ومراكز التسوّق باستخدام كاميرات المراقبة، ثم إرسال رسائل نصّية إليهن توضح الغرامة المالية التي يتعيّن عليهن دفعها. كما تمت مناقشة خيارات الاستبعاد الاجتماعي والحرمان من الخدمات العامة.

في تموز (يوليو)، أصدر رئيسي، الذي كان الرئيس السابق للمجلس الأعلى للثورة الثقافية – وهو هيئة تنسيق قوية متعددة الوكالات تعمل تحت رعاية المرشد الأعلى لوضع سياسات وطنية واسعة النطاق بشأن النشاط الثقافي والفنون والتعليم- أمرًا يُبلّغ فيه ما لا يقل عن 26 هيئة تنفيذية بأن مشروع قانون “الحجاب والعفة”، الذي تم اقتراحه لأول مرة في العام 2006، يجب أن يبدأ تنفيذه بالكامل. يشمل ذلك إذاعة جمهورية إيران الإسلامية ووزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي لإنتاج دعاية على مدار الساعة حول أهمية الحجاب، وأجهزة الأمن التي تحشد مواردها لتعزيز الدوريات والاعتقالات والغرامات.

لم يكن المرسوم، بصيغته التي تمت صياغتها، شيئًا جديدًا، لكنه كان يهدف إلى تشديد الخناق على النساء من خلال طلب القيود المفروضة على الملبس مع توريط المزيد من الهيئات الحكومية في التلقين العقائدي المؤيد للحجاب. وكان الرئيس المتشدد السابق محمود أحمدي نجاد أوّل من أمر بتنفيذ القانون، الذي تم تعليقه وتجاهله على مدى ثماني سنوات من قبل الرئيس حسن روحاني، إلى أن جاء رئيسي وأمر بتنفيذه بشكلٍ كامل.

حتى في وظيفته السابقة كرئيسٍ للسلطة القضائية، كان رئيسي مُتحمّسًا للتحريض على الإكراه على الحجاب الإلزامي. في آب (أغسطس) 2019، أعرب عن أسفه لـ”فشل” المؤسسات الحكومية في التمسّك بقوانين الحجاب، وأمر هيئة التفتيش العامة الإيرانية بتقديم تقريرٍ له حول أداء المنظمات المختلفة. جليل محبي، السكرتير السابق لمبادرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كشف أخيرًا أنه في العام 2019، تم عقد اجتماع في مكتب رئيسي في السلطة القضائية حيث حذر خلاله بعض الحاضرين من أن الدعم الشعبي لترشيحه المحتمل للرئاسة قد يتأثر سلبًا إذا عزز تطبيق قيود الحجاب.

ومع ذلك، على الرغم من حماسه للقيود الشديدة على الحجاب قبل فترة رئاسته، فإن السبب الأقرب لشروع رئيسي في نهاية المطاف في تشديد أجندته الخاصة بالحجاب هو المساعدة على تعزيز إدارته المتذبذبة، التي كانت تعاني من أزمة الشرعية، من خلال الائتلاف مع العناصر الأكثر راديكالية في المجتمع الإيراني الذين شعروا بالعاطفة تجاهه. لقد رأى التحريض على الحجاب كصرخة حاشدة يمكن أن توحّد مؤيديه المتشددين. كما أعرب عن رغبته في صرف الانتباه عن التضخم المرتفع، والتكاليف الاقتصادية المتزايدة للعقوبات الأميركية، والانخفاض الحاد لقيمة العملة الوطنية الإيرانية، وإخفاقات سياسته الخارجية من خلال تضخيم الدعاية حول قضية خلافية يمكن أن تولد فجوة ثقافية بين الأكثر ليبرالية من الإيرانيين الذين لا يؤيدونه ولا يؤيدون قاعدته من الموالين المحافظين.

ولكن بعد أكثر من عام من الدعاية المكثفة والإجراءات التحرمية المعززة، والتي تخللتها مشاهد فيروسية لمواجهات عنيفة بين حراس شرطة الأخلاق والنساء اللواتي تعرضن للحشر والدفع والسحب والإهانة والتصدي بقوة، وبلغت ذروتها في وفاة أميني المفجعة، برز حساب وطني أدى إلى عكس ما أراد رئيسي تحقيقه. فبدلًا من زيادة الامتثال للحجاب في مجتمعٍ أكثر خضوعًا وأقل اضطرابًا، خلعت النساء الإيرانيات حجابهن في الأماكن العامة بتحدٍّ ورفضن التفويض الراسخ. وأكثر ما يثير قلق رئيسي أن العديد من الإيرانيين المُتدَينين يقفون إلى جانبهن.

وما أثار استياء رئيسي وأنصاره المتشددين، أن الاستثمار المفرط في القوانين المتشددة لإثارة الحجاب قد أجهضت، ما يدل مرة أخرى على أن الأصولية بأي شكل من الأشكال تنتج كوارث. الآن، البلد بأكمله في حالة اضطراب  والمزيد من الشباب والشابات يتزايد عداؤهم لمبادئ دين لم يكن من المفترض أن يتم الترويج له من خلال الترهيب والتخويف. ما كان من المفترض أن يكون الورقة الرابحة لإدارة رئيسي أصبح نقطة ضعفه في وضع خرج عن نطاق السيطرة بشكل واضح.

وكما كتب الباحث التركي المتميز في الإسلام مصطفى أكيول في كتابه في العام 2021، “لماذا، كمسلم، أنا أدافع عن الحرية”، “عندما تدفع الدين بالقوة في حناجر الناس، قد ينتهي بهم الأمر إلى كره الدين، وهو بالضبط ما يحدث اليوم في العديد من أركان العالم الإسلامي”.

“بحرمان الناس من حقهم الطبيعي في الحرية، تؤدي الأنظمة والحركات الإسلامية القمعية إلى أكبر موجة ارتداد شهدتها الحضارة الإسلامية على الإطلاق”.

  • كوروش زياباري هو صحافي متخصص في الشؤون الإيرانية، ومراسل صحيفة “آسيا تايمز”. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @KZiabari.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالانكليزية في “فورين بوليسي” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى