لماذا تَتَرَيَّثُ السّعودية في الانضمامِ إلى “بريكس”؟

محمّد قوّاص*

منذ الساعات الأولى لإعلان قمة مجموعة “بريكس” في آب (أغسطس) الماضي الموافقة على ضَمِّ دولٍ عدّة إلى عضوية المجموعة، من بينها المملكة العربية السعودية، كان ردُّ فعلِ الرياض مُفاجئًا، لا سيما أنَّ قرارًا استراتيجيًا لتوسيع عضوية المجموعة يُفتَرَضُ أنه لا يخرجُ إلى العلن إلّا بعد التشاورِ مع الدولِ المُرَشَّحة ونيل موافقتها على الأمر. لكن المملكة شكرت حينها زعماء المجموعة وقالت: “سندرس الأمر”.

وكانَ من المُفتَرَض أن تدخُلَ عضويةُ الدول التي تمّت دعوتها إلى الالتحاق بنادي “بريكس” حَيِّزَ التنفيذ في الأوَّلِ من كانون الثاني (يناير) 2024. لكن ما نشرته وكالة “رويترز”، نقلًا عن مصادر سعودية، يُفيد بأنَّ السعودية ما زالت تدرس الأمر. صحيحٌ أنَّ الرياض لم ترفض الدعوة كما فعلت الأرجنتين حين وَجَّهت لها قمّة “بريكس” الدعوة إلى الانضمام، غير أنَّ طولَ فترة “الدراسة والتريُّث” تكشفُ عن حذرٍ وتحفّظٍ من خطوةٍ لها حساباتها في خرائط علاقات السعودية الدولية.

قد لا تكون مجموعة “بريكس” حلفًا مُعادِيًا للولايات المتحدة والمنظومة الغربية، خصوصًا أنها تكتّلٌ اقتصادي صرف لا خطط سياسية أو إيديولوجية تقود حراكها. لكن المجموعة في حوافز تشكّلها من جهة وتمدّدها لتضمّ الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، تشكّل في خطوطها العريضة تحدّيًا لهيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي ومؤسّساته المالية، وتيارًا مُعاندًا من دون أن يكونَ مُعاديًا لقواعد السوق التي تتحكم واشنطن بسيرورته وصيرورته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

قد لا يُمكِنُ لدولٍ أعضاء في “بريكس” مُتناقِضة سياسيًا في ما بينها ومُتصادِمة حدوديًا، مثل الصين والهند، أن تُشَكِلُ قاعدةً لقيامِ كتلة سياسية تُقارع الولايات المتحدة. ناهيك بأنَّ مواقف كل دول المجموعة من قيام روسيا بقيادة فلاديمير بوتين بشنّ حربٍ ضد أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 وضمّ أقاليم أوكرانية إلى الاتحاد الروسي لاحقًا تراوحت ما بين التحفّظ والرفض، وإن شابَ تلك المواقف، وخصوصًا من قبل الصين، تَفَهُّمٌ لدوافع موسكو. وإذا ما كانت مناسبة أوكرانيا وفّرت امتحانًا للطابع “السياسوي” لمجموعة “بريكس”، غير أن المناسبة وفّرت دليلًا جديدًا على صعوبة تكامل دول المجموعة داخل خندق سياسي واحد على منوال تكتلات الحرب الباردة في نسخة حلف وراسو أو دول عدم الانحياز وغيرهما.

ومع ذلك فإنَّ تَشَكُّلَ مجموعة “بريكس” والعضوية داخلها هما أيضًا تعبيرٌ عن النظام الدولي الحالي بطابعه الاقتصادي المالي الأقل. فالتجمّعُ يطمحُ إلى الخروج من هيمنة الدولار، وتعظيم شأن تبادل الدفع بعملات الدول الأعضاء، وصولًا إلى إقامةِ بنكٍ للتنمية يكون ندًّا للبنك الدولي نظريًا ويُشكّلُ أداةً فاعلة في مسارات التنمية في العالم، ما يُعَظِّمُ أيضًا من نفوذ المجموعة في الاقتصادات العالمية. أمّا وأنَّ الصين وروسيا هما دولتان مركزيتان أساسيتان في ديناميات “بريكس”، فإنَّ المجموعة تُعتَبَرُ في عرف واشنطن إحدى أذرع حلف “الشراكة بلا حدود” الذي سبق لبكين وموسكو أن أعلنتاه في القمّة التي جمعت بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ في بكين في شباط (فبراير) 2022.

احتاجت مسألة توسيع عضوية “بريكس” جدلًا صعبًا بين الدول الخمس الأعضاء. فاستبعدت دولًا كانت تُعَوِّلُ على تلك العضوية ومنها الجزائر، ووافقت في قمّة الصيف الماضي بعد “غربلة أسماء” على دعوة كل من السعودية والأرجنتين والإمارات العربية المتحدة وإيران ومصر وإثيوبيا.

المفاجأة الأولى أتت من الأرجنتين في أيلول (سبتمبر) الماضي حين أعلن الرئيس الأرجنتيني المُنتَخب خافيير مايلي، عدم انضمام بلاده إلى التجمّع في نسخته المُوَسَّعة. أتى تغيير الموقف الأرجنتيني بعدما حقق مايلي فوزًا مفاجئًا في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، مع تعهّداتٍ جذرية بإصلاح الاقتصاد المتعثر في أكثر دول العالم مديونية لصندوق النقد الدولي بأكثر من 44 مليار دولار.

وكانت الأرجنتين وافقت تحت رئاسة سلفه اليساري ألبرتو فيرنانديز، على الانضمام إلى تكتّل “بريكس” لما يشكّله من رافعة لتوجّهات فيرنانديز اليسارية. وقد دعمت الصين التي تمثل أكثر من 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للكتلة طلب حكومة الأرجنتين السابقة للحصول على العضوية. غير أنَّ الرئيس الجديد كان انتقد الصين بشدة، حتى أنه وصف الحكومة الصينية خلال حملته الانتخابية بـ”القتلة”، وقال إنه لن يعمل مع الشيوعيين.

وإذا ما تأمّلنا موقف الأرجنتين السريع والحاسم، فيمكن تفهّم المفاجأة الثانية التي أتت من السعودية في آب (أغسطس) الماضي في الإعلان عن “دراسة الأمر”، وفي “الاستمرار في دراسة الأمر” حتى الآن. والواضح أنَّ الرياض التي لم تذهب مذهب الأرجنتين برئاسة مايلي في إقفال الباب لأسبابٍ إيديولوجية، وأبقت الباب مواربًا وقد تبقيه لآجال طويلة. فأيُّ مراقب لتحوّلات السعودية منذ اعتلاء الملك سلمان بن عبد العزيز وإشراف وليّ العهد الأمير محمد على رؤية السعودية 2030، يستنتج إعادة تموضع المملكة في المشهد الدولي وفق فلسفة سيادية في الاستقلال عن الأقطاب وانتهاج التنوّع والتعددية في علاقات الرياض مع العالم.

ومع ذلك فإنَّ عملية اندماج السعودية داخل “بريكس” هي مسألة وقت، وفق ما يرى مراقبون. حتى أنهم يعتبرون الأمر حتميًا بالنظر إلى أنَّ المملكة هي طرفٌ أساسي في “بنك التنمية الجديد” لدول “بريكس”. ومع ذلك فإنَّ الغموض ما زال يكتنف المسألة، خصوصًا أنَّ تقرير “رويترز” نقل عن مصدرين موقفَين مُتباينَين. ذكر الأول أنَّ “الانضمام إلى المجموعة من شأنه أن يعودَ بمنافع قوية على المملكة بالنظر إلى أنَّ الصين والهند هما أكبر شريكين تجاريين لها”. فيما أشار الثاني إلى أنَّ “السعودية تجري تقييمًا للمنافع ثم ستتخذ قرارها”.

وفيما قالت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور، إن السعودية والإمارات وإثيوبيا وإيران ومصر أكدت انضمامها إلى التكتل، أشار وزير الاقتصاد السعودي فيصل الإبراهيم، إلى أنَّ المملكة لم تنضم بعد إلى “بريكس”. وأوضح أنَّ بلاده تمرّ بعمليةٍ داخلية وستتخذ قرارًا قريبًا. وأوضح أنَّ السعودية هي “جُزءٌ من العديد من المنصّات والمنظمات المتعدّدة الأطراف، وكلما تمّت دعوة المملكة إلى المشاركة في إحداها، فإننا ندرس الدعوة من خلالِ عمليةٍ مُتعدّدة الخطوات تؤدّي في النهاية إلى القرار”. وقال الإبراهيم لـ”رويترز”: “نحن حاليًا في عملية مماثلة وسأعلق عند الانتهاء من هذه العملية”.

ولن يكونَ كشفًا القول بأنَّ التريُّثَ السعودي يعودُ إلى تمسّك الرياض بعلاقاتٍ جيدة مع الولايات المتحدة. صحيحٌ أنَّ كثيرًا من التوتر شاب العلاقات السعودية-الأميركية، لا سيما في المرحلة الأولى من عهد الرئيس الأميركي جو بايدن. غير أنَّ حوارًا مُعمَّقًا يجري منذُ أشهرٍ بين البلدين من شأنه أن ينقلَ علاقة البلدين إلى مصافٍ جديد. ورُغمَ حدّة الخلافات بين الرياض وواشنطن وتطوّر علاقات المملكة مع كلٍّ من الصين وروسيا، غير أنَّ السعودية ظلّت مُتَمَسّكة بالحفاظ على علاقاتٍ توصف دائمًا بالاستراتيجية والتاريخية مع الولايات المتحدة. ويبدو أنَّ “دراسة أمر” عضوية “بريكس” رهن تقييم تأثيرات التطوّر المحتملة على صيرورة العلاقة مع واشنطن.

ويدورُ حديثٌ كثير عن محادثاتٍ تُجرى بين البلدين في شأن رفع مستوى علاقات الأمن والدفاع السعودية-الأميركية، سواء في مستويات التسليح أم في مستويات التزام واشنطن الدفاع عن أمن السعودية وحلفاء الولايات المتحدة في الخليج. ويدورُ الجدل أيضًا بشأن مساهمة الولايات المتحدة في دعم البرنامج النووي السعودي للأغراض المدنية. وفيما كانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد كشفت سابقًا عن انخراطِ الصين في صناعة الأسلحة الصاروخية البالستية في السعودية، فإنَّ مناعةَ المملكة تتطلّب توازن علاقاتها غربًا وشرقًا، وبين واشنطن وبكين خصوصًا، على نحوٍ يجعلُ من الدراسة والتقييم والتربث في المرحلة الحرجة التي يمرّ بها الشرق الأوسط ضرورة لا ترفًا في حسابات الأرباح والخسائر.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى