ماركوس أُوريليوس: الحكْم استنادًا إِلى الفلسفة (1 من 2)

غلاف كتابه “التأَمُّلات”

هنري زغيب*

مِن الحكَّام مَن يأْتي إِلى الحُكم مِن الوراثة، ومنهم مِن الدكتاتورية، ومنهم من الفكْر والفلسفة.

الأَمبراطور الروماني ماركوس أُوريليوس (121- 180) حكَمَ في أَزهى عصور الأَمبراطورية الرومانية، بإِدارة حازمة حاسمة، وحقَّقَ إِنجازات عظيمة، وستراتيجيات عسكرية باتت مراجعَ بعده، لكنه فوق كلِّ ذلك كان متأَثِّرًا بالفلسفة الإِغريقية، وعلى الأخص منها بالمدرسة الرواقية.

فماذا عنها؟ وما الذي أَخَذ منها؟

يقود معركةً مع كبار ضباطه

زينون الرواقي

الرواقية مذهب فلسفي من العصر الهيلِّينيسْتي في اليونان (أَي منذ وفاة الإِسكندر الأَكبر سنة 323 ق.م. وامتدَّ نحو 200 سنة). أَسس هذا المذهبَ الفيلسوفُ زينون السيتومي. وهو وُلد سنة 334 ق.م. في سيتيوم (مدينة فينيقية في جزيرة قبرص، هي اليوم لارنكا)، وهاجر إِلى أَثينا حيث درس الفلسفة، وأَنشأَ مذهب الرواقية لأَنه كان يمشي ويعلِّم مريديه في الرواق. تقوم فلسفته على الأَخلاقيات والمنطق والتقشُّف بلوغًا إِلى الراحة والسعادة. وهو دعا إِلى تقبُّل الحاضر كما هو، وإِلى كبْح النفس عن الانقياد إِلى الملذَّات، واتِّـباع الفضيلة وعدم الخوف من الأَلَم، ومشاورة العقل لفهم العالَم. من هنا الإِشاحة عن جميع الظواهر والمظاهر الخارجية الزائلة.

جميع هذه التعاليم اتَّبعها لاحقًا ماركوس أُوريليوس، ودوَّن أَفكاره ومزاولاته في مذكراته الخاصة التي دعاها “التأَمُّلات”، صدرت لاحقًا في 12 جزءًا، دار جوهرُها على التعاليم الرواقية. وهو كان، منذ مطالعه وإبان سنوات حكمه (161 – 180)، على اتصال بالفلاسفة واللغويين والمفكرين في عصره، يخالطهم ويحادثهم ويناقشهم ليزداد معرفةً وخبرة. ونفَعَتْهُ الرواقية كثيرًا في حلِّ معضلات صعبة واجَهَتْه إِبان سنوات حكمه.

منتصرًا بعد إِحدى المعارك

ملامح من سيرته

ولادتُهُ مرجَّحة في 26 نيسان/أَبريل سنة 121م. في روما لأُسرة غنية وسلالة متمرسة في الحكم. دخل إِلى عالَم الفلسفة بواسطة الفيلسوف اليوناني ديوغنيتوس. وفي كتابه “التأَمُّلات”، شكَرَه أُوريليوس على كونه حبَّبَه بالفلسفة وبظواهر أُخرى من التقشُّف الذاتي الصارم الذي أَوصله لاحقًا إِلى تقشُّف الرواقية. وذاك النمط من الحياة الخشنة عرفه الفيلسوف الإِغريقي الساخر ديوجينوس الذي ارتضى أَن يعيش لا في بيت عادي بل في برميل من خزف.

كان أُوريليوس في شبابه رياضيًّا  زاول الملاكمة والمصارعة والركض، كما كانت رائجة في الأَلعاب الأُولمبية التي ازدهرت كثيرًا في العصر الروماني. حين بلغ الحادية عشْرة، تولَّى تربيتَه عدد من المعلمين، بينهم اللغوي الإِغريقي الإِسكندر الكوتاهيّ (كوتاهيا مدينة غربيّ تركيا اليوم). وفي روما وأَثينا القديمتَين كان للُّغويين أَثرٌ بالغ في التربية. درَّسه الإسكندر الأَدب والشعر اليونانيَّيْن في كتابات هوميروس وهيزيود وسيمونيدِس وسواهم. وأَثرت تلك التعاليم في الفتى أُوريليوس. ومع أَنه درس في روما، كتب معظم أَفكاره (في “التأَمُّلات”)  باليونانية لا باللاتينية. وذكَر دروس معلِّمه الاسكندر، وخصوصًا تلك التي عن التهذيب ومعرفة التعامل اللائق مع الآخرين أَثناء الحديث أَو الحوار، وكذلك فضيلة التسامُح ولو مع أَصعب الناس.

“التأَمُّلات” طبعة لندن 1811

الخطابة فنُّ الحكَّام

من مُعاصري أُوريليوس الذين تأَثروا كذلك بِدُرُوس الاسكندر: الخطيب اليوناني آيْلُوس آريستيدِس الذي كان أُوريليوس في أَواخر عهده يزورُه في سْميرنا  (إِزمير اليوم). وحين ضرب زلزال كارثي مدينة سْميرنا كتب آريستيد إِلى الأَمبراطور أُوريليوس مستغيثًا فأَمر أُوريليوس بمبلغ كافٍ لإِعادة إِعمار المدينة.

سنة 138م. كان من الأَمبراطور أَنطونيوس بيُّوس (بين 138-161م.) أَن تبنّى أُوريليوس (توفي والدُه حين كان ابن ثلاث سنوات) ومعه لوسيوس فيرُس وأوصى لهما بالحُكْم بعده، عمَلًا بوصية سلفه هادريانوس. وكان بيُّوس تزوَّج فوستينا عمة أُوريليوس، وكان محبًّا رجالَ الفكر والفلسفة ومعلِّمي الأَدب واللغات والفيزياء، ما جعل أُوريليوس، وأَخاه بالتبني كذلك، منغمسًا إِبان دراسته في جو الفلسفة والفكر الهيليني.

لماذا الخطابة؟

كانت الخطابة (ومن ضمنها البلاغة) آخر مرحلة دراسية للطلاب، وهي مقتصرة على قلَّة من الشباب القادرين على اقتبالها. ومَن كانوا يُتقنونها كانوا عادة يتوجَّهون إِلى السياسة أَو القانون. من هنا تقدير الرومان دُربةَ الخطابة والبلاغة، لأَن العصر الإِغريقي/الروماني كان لافتًا بخطبائه ذوي الموهبة العالية والنادرة. لذا درس أُوريليوس (ولوسيوس أَخوه بالتبني) فن الخطابة على ثلاثة معلِّمين أَغارقة (هيرودُس أتِّيكوس، وآنينوس ماسِر، وكانينيوس سيلِر)، ومعلِّم لاتيني (ماركوس كورنيليوس فرونتو)، تأَثَّر أُوريليوس بهم وكان لهذا التأَثُّر أَثَرُهُ لاحقًا حين تولَّى الحُكْم.

وكان أَنطونيوس بيُّوس نحو سنة 140م. استدعى أَتيكوس إلى روما لتعليم ولدَيه بالتبني، لأَنه كان ذا شهرة في حقل تعليم الخطابة. وهو كان ثريًّا أَثينيًّا ومن أَبرز الشخصيات في عهد أَنطونيوس. ولم يكن أبدًا (وكذلك سائر المعلمين) على وفاق مع المذهب الرواقي، ما نبَّه أُوريليوس إِليه أَكثر. وغالى فرونتو (وهو كان قنصلًا لشهرين وضالعًا في النظام الروماني) فنصَح تلميذه أُوريليوس بالابتعاد عن الفلسفة.

كيف عاد أُوريليوس فنحا صوب الرواقية، وبتأْثير مِـمَّن؟

هذا ما أُعالجه في الجزء المقبل من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى