الرئاسة في لبنان: من مَصدَرِ فَخرٍ للموارنة إلى لَعنةٍ لهم وعليهم

مايكل يونغ*

السؤالُ الذي يَتَعَيَّنَ على الطائفة المسيحية المارونية في لبنان أن تطرحه على نفسها بجدّيةٍ اليوم هو ما إذا كانت رئاسة البلاد، المُخَصَّصة للموارنة في النظام اللبناني لتقاسم السلطة الطائفي، تُشكّل ميزة أم أنها أصبحت عائقًا ومشكلة. لقد مرَّ عامٌ تقريبًا منذ أن أصبح منصب الرئاسة شاغرًا، ولا يزال البرلمان (الذي ينتخب الرؤساء) مُنقسمًا بشدة حول مَن سيينتخب.

لقد دفعت كل انتخابات رئاسية في السنوات الخمس عشرة الماضية لبنان إلى نقطةِ أزمة كبرى. في العام 2007، أدّى الخلاف حول مَن سيخلف العماد إميل لحود إلى فراغٍ دام ستة أشهر ومواجهة عسكرية قصيرة في بيروت والجبل، أعقبها مؤتمرٌ في الدوحة، تمت فيه الموافقة على العماد ميشال سليمان أن يكون رئيسًا. وفي العام 2014، عندما انتهت ولاية العماد سليمان، أدّت الخلافات حول خليفة له إلى شغورٍ لمدة عامين، حتى ظهر إجماعٌ على انتخاب العماد ميشال عون. ومع رحيل عون، تجد البلاد نفسها مرة أخرى غير قادرة على الاتفاق على مَن يجب أن يأتي بعده.

بمعنى آخر، رئاسة الجمهورية، المنصبُ الذي من المُفترَض أن يُسلّطَ الضوء على تفرّد لبنان كدولةٍ عربية حيث يمكن انتخاب مسيحي كرئيس للدولة، تؤكد الآن بشكل أساس على ضعف الطائفة بسبب كل الأطراف التي تسعى إلى التلاعب بالانتخابات في لبنان لمصالحها.

كلُّ يومٍ يمرُّ بدون وجود رئيس للجمهورية يُظهرُ مدى تعرّض هذا المنصب للانشقاق السياسي في البلاد. وكلُّ يومٍ يستمرُّ فيه لبنان في العملِ بشكلٍ طبيعي إلى حدٍّ ما من دون وجود رئيسٍ للجمهورية في منصبه، يُظهِرُ أنه يمكن الاستغناء عن الرئيس حقًا. ولا يُعتَبَرُ أيٌّ من الاستنتاجين جيدًا بالنسبة إلى المسيحيين، الذين يدعو العديد منهم الآن علنًا إلى إنشاءِ بنيةٍ سياسية جديدة في لبنان من شأنها الفصل بين الطوائف.

مع ذلك، ما زال المسيحيون يحتفظون ببعض النفوذ. فقد عارضت الأحزاب المسيحية الكبرى ــ”القوات اللبنانية”، “التيار الوطني الحر”، و”حزب الكتائب”ــ اختيار “حزب الله” لسليمان فرنجية للرئاسة. إذا لم يتمكّن فرنجية من الحصول على دعمٍ من “القوات اللبنانية” أو “التيار الوطني الحر” على وجه الخصوص، فسوف يفتقر إلى الشرعية المسيحية، وربما لا يمكن انتخابه. وقد أجبر ذلك “حزب الله” على إيجاد طريقة لتقسيم المسيحيين وتأمين الدعم من إحدى كتلهم.

لكن المشكلة تكمن في مكانٍ آخر. بالنسبة إلى العديد من الموارنة، فإن اختيار “حزب الله” للرئيس، ومن ثم مناورته مع أحد الأحزاب المسيحية الرئيسة لتأييد القرار، يحرمُ الموارنة من الحقّ في اتخاذ هذا الاختيار بأنفسهم. وكما فرضت الطائفة الشيعية دائمًا رئيسًا شيعيًا للبرلمان بدون استشارة الطوائف الأخرى، يشعر الموارنة أن هذا الأمر يجب أن ينطبق على اختيارهم لرئيس الجمهورية.

هناك منطقٌ في هذه الحجة، حتى لو أنها تؤكد إلى أيِّ حدٍّ أصبح لبنان اتحادًا للطوائف، وليس بلدًا مُوَحَّدًا، وإن كان تعدّديًا، تتعايش فيه الطوائف. إن رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان شخصيتان وطنيتان، يتم انتخابهما من قبل تقاطعٍ طائفي في البرلمان، لذا فإن إعطاء مجتمعاتهما خيارًا أساسيًا في اختيارهما يُعَدُّ انحرافًا دستوريًا. ومع ذلك، فقد تم تقويض الدستور بالكامل في ظل النظام الحالي، واستخدم “حزب الله” المنطق الطائفي لفرض نبيه بري رئيسًا لمجلس النواب منذ العام 1992. لذلك، ليس من المنطقي أن يحرم الحزب الشيعي الموارنة من الحرية نفسها.

والأمر الأكثر ضررًا بالنسبة إلى الموارنة، هو أنه كما أصبحت رئاسة الجمهورية تعكس تراجع قوة الطائفة في لبنان، فقد أصبحت طوقَ نجاةٍ وهميًا بالنسبة إلى أهميتهم. وبموجب دستور ما بعد الطائف، فقدت رئاسة الجمهورية الكثير من صلاحياتها لصالح رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب. في هذه الظروف، سيكون من الأفضل أن تقوم الطوائف الكبرى بتدوير أو مداورة المناصب، بحيث يكون هناك دَوَران في المناصب العليا في الدولة وتستفيد جميع الطوائف القيادية من مزايا كل منها.

وبهذه الطريقة، سيظل الموارنة قادرين على الوصول إلى منصب الرئاسة، وهو عنصرٌ أساسي في ثقة الطائفة بنفسها، لكنهم سيشغلون أيضًا مناصب أخرى في الدولة، وأحيانًا مناصب أكثر نفوذًا. ولا شيء يمنع الطبقة السياسية في لبنان من إدخال مثل هذا الابتكار في دستورها، بدون الحاجة إلى تغييرات كبيرة في المناصب العليا الأخرى.

هذه مجرد خطوة من الخطوات التي يمكن اتخاذها لكسر الارتباط الماروني المُدَمّر للذات بالرئاسة التي أصبحت مصدر ضعف المارونية أكثر من مصدر قوتها. الخيار الأسوأ هو أن يقول القادة الموارنة إن الانفصال الطائفي هو النتيجة الأفضل، لأن طائفتهم تخسر السلطة على المستوى الوطني.

في الواقع، في المفاوضات بين “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” حول الثمن الذي سيطالب به زعيم “التيار الوطني الحر” مقابل تأييد فرنجية، طرح جبران باسيل مقايضة: طالب باللامركزية الإدارية والمالية في المناطق ذات الغالبية المسيحية، مقابل دعم مرشح “حزب الله”.

ما يعنيه هذا فعليًا هو أن باسيل أعطى “حزب الله” سلطة اختيار الرئيس الذي يريده، مقابل قيام الموارنة بتقليص علاقاتهم بالدولة المركزية. قد يُرحّب العديد من الموارنة بهذا الأمر، لكن المخاطر هائلة. وهذا يعني أن الطائفة تخلق سابقة تتمثّل في منح “حزب الله” اختيار رئيس الدولة، وبالتالي القدرة على تحديد مستقبل لبنان ككومنولث، حيث لن يحصل الموارنة إلّا على حُكمٍ ذاتي غير مستقر يمكن للحكومة المركزية أن تضغط عليه صعودًا وهبوطًا حسب الرغبة. .

عادةً ما يُوَلِّدُ الذعرُ خياراتٍ سيئة، وهذا ما نراه اليوم داخل الطائفة المارونية التي يُخيّم عليها الارتباك. والسبب في ذلك هو رغبتها في الاحتفاظ بالرئاسة بأيِّ ثمن، وهو مصدر خلافاتها الداخلية. لقد حان الوقت للمجتمع المسيحي الماروني للتفكير خارج الصندوق والحفاظ على ما تبقّى من سلاحه الأكثر قيمة: الوحدة المجتمعية.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى