كازاخستان … روسيا تُوقِظُ “الإتحادَ السوفياتي”!

محمَّد قوَّاص*

جاءت أزمة كازاخستان مُناسَبة تلقّفها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتقدّم للعالم بـ”ناتو روسي” يتمثّل بمنظمة معاهدة التعاون الجماعي (CSTO) التي حرّك سيّد الكرملين جيوشها باتصالٍ هاتفي. لم يسبق لهذا “الاتحاد السوفياتي” المُضمِر أن أظهر مخالبه منذ نشأته في العام 1992 حتى جاء حدثٌ جَلل تطلّب “إغاثة” نظام الحكم في كازاخستان.

وعلى الرغم من ضراوة الاحتجاجات في هذا البلد، والسرعة القياسية لتمدّدها، إلّا أن الأمر لم يكن خارج السيطرة، على الأقل وفق ما أوحى الرئيس الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف، (وريث “زعيم الأمة” السوفياتي العتيق نور سلطان نزارباييف)، حين أعلن استعادة سلطاته لزمام الأمور في البلاد قبل أن يتسنّى للقوات الحليفة المترجلة بدء عملياتها العسكرية.
غير أن موسكو لم تكن تملك تَرَفَ المُخاطرة في ظهور مفاجأةٍ غير سارة في إحدى حدائق روسية الخلفية في وقتٍ تتحدّى الغرب دفاعًا عن مصالحها في أوكرانيا، إحدى حدائقها الخلفية الأخرى. الحدود بين روسيا وكازاخستان هي الأطول بين دولتين في العالم. والأمر من الجسارة بحيث أوكلت موسكو مهمة قيادة القوات المُتعدّدة إلى الجنرال اندريه سيرديوكوف، رجل بوتين الموثوق الذي قاد عملية ضم القرم (2014) وعمليات شرق أوكرانيا (2015)، كما قاد القوات الروسية في سوريا (2019) وكان مُشاركًا في حربيّ الشيشان.
ومن السهل على المُراقب أن يستنتجَ أن القوى الغربية عامة والولايات المتحدة خاصة لم تُظهر اصطيادًا بماء كازاخستان العكر على الرغم من الاتهامات التي ساقها توكاييف، ودعمتها موسكو، عن أن التحرّك “إرهابي تتحكّم به أيادٍ خارجية”. فواشنطن أخرجت مواقف تُدين القمع الذي تمارسه سلطات نور سلطان (أستانا سابقًا) كما إدانة أعمال التخريب التي ارتكبها المُحتجّون. كما أن الدول الغربية والولايات المتحدة التي سحبت قواتها بشكل مُهين من أفغانستان، تُدرِكُ صعوبة التعامل مع حدث كازاخستان الواقعة استراتيجيًا وجغرافيًا داخل النفوذ المشترك (والمتنافس) لروسيا والصين.
يكاد يكون موقف بكين وموسكو واحدًا في دعم سلطات كازاخستان ومُباركة الإجراءات الحازمة التي اتّخذها توكاييف ضد “المجرمين”، حسب وصفه. ذهب الأخير بما تشتهي رياحٌ صينية آتية من الشرق وأُخرى روسية آتية من الشمال في رفضِ أية وصايا غربية كانت دعت إلى الحوار للخروج من الأزمة وإنهاء العنف، ذلك، ووفق رئيس البلاد، أن “لا حوار مع الإرهابيين”.
واللافت أن قلق الصين -التي استثمرت الكثير في كازاخستان- مما يجري في البلاد يُضاهي وربما يفوق قلق روسيا، وخصوصًا وأن البلد الجار مفصلي في “طريق الحرير”. غير أن بكين لم تُحرّك أذرعها العسكرية نحو جمهورية سوفياتية قديمة، مُكتفيةً بمراقبة التحرّك الرشيق والعاجل الذي قامت به “أذرع” روسيا في المنطقة.
واللافت أيضًا، أن كازاخستان التي تحظى بعلاقات متينة مع جارتيها، الصين وروسيا، والتي امتلكت في عهد نزارباييف علاقات متقدمة مع الغرب، وخصوصًا الولايات المتحدة، كما مع تركيا-أردوغان (وهو ما أقلق موسكو ودفعها لرعاية وراثة توكاييف)، ستقع بحكم الفعل ورد الفعل داخل النفوذ الروسي بمستويات متقدمة، ذلك أن على توكاييف، خريج معاهد موسكو والروسي الهوى، أن يدفع لاحقًا فاتورة هرع روسيا لإنقاذ حكمه، ما سيُوفّر لموسكو اليد الطولى في ملفات عديدة، لا سيما ملف الطاقة الذي يُعتبر استراتيجيًا وحيويًا بالنسبة إلى الصين (يقدر احتياط نفط كازاخستان بحوالي 30 مليار برميل وفيها ثاني أكبر احتياط من اليورانيوم).
ولئن ما زال مُبكراً قياس ما تجنيه روسيا، وربما على حساب الصين في آسيا الوسطى، إلّا أن روسيا في تدخّلها العسكري وقيادتها لقوات بلدان المنطقة لا تعمل فقط على حماية نظام كازاخستان ووضع حدّ نهائي -بالمناسبة- لنفوذ نزارباييف وعائلته هناك، بل تعمل أيضًا على منع سابقة يُمكِن أن تتمدّد باتجاه دول الـ” CSTO”،  وهي، بالإضافة إلى روسيا وكازاخستان، كلّ من أرمينيا وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، بما يثبّت روسيا مرجعًا أمنيًا لها، ويُعيد تشكل “اتحاد سوفياتي” تقوده موسكو بواجهاتٍ مختلفة.
والحال أن بوتين الذي يستنتج مرونة غربية في الأيام الأخيرة بشأن “ضرورة الحوار” مع موسكو بشأن أزمة أوكرانيا، ويتأمل البيانات الصادرة عن أوروبا والأطلسي والمواقف الصادرة عن الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن حول المتاح والممنوع في هذا الملف، سيرسل وفد روسيا للتفاوض مع الوفد الأميركي في جنيف الإثنين متسلّحاً بمشاهد عن عرض العضلات في كازاخستان بما غيّر من قواعد اللعبة وربما قلب كثيرًا من موازين القوى.
والأرجح أن بوتين الذي شهد رواج “الثورات الملّونة” في المنطقة خلال السنوات الماضية رأى في مشاهد كازاخستان إنذارًا لا يُريد انتقالها يومًا إلى الساحة الحمراء في موسكو.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى