هل تَملُكُ بيروت “فتحَ صفحةٍ جديدةٍ” مع الرياض!

محمّد قوّاص*

إنصاعَ “حزب الله” أخيرًا وأخلى الحكومة اللبنانية من الوزير جورج قرداحي. إنتهت مهمّة قرداحي داخل تعقّد الأزمة بين دول الخليج ولبنان ولم تعد هناك حاجةٌ إلى النفخِ بالكرامةِ والعزّةِ والعنادِ التي أمره بها الحزب. فحين يُقرِّرُ الكبار تحوّلًا ما ينصاعُ الصغار، حزبًا وتيّارًا ونجومَ إعلامٍ تمَّ استوزارهم، إلى قواعد اللعبة وشروطها الجديدة.

لم يحمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عصًا سحرية إلى السعودية أفضت إلى ما أعلنه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن “فتحِ صفحةٍ جديدة” مع لبنان. إستثمرت باريس جهودًا دؤوبة مُكثّفة مع أصحابِ العلاقة، لا سيما في الرياض وبيروت وربما طهران قبل أن ترسُمَ خريطةَ طريقٍ قادت إلى ظهورِ أعراضٍ أولى للمرونة السعودية.

فرنسا دولة رئيسة وفاعلة ومُقرِّرة داخل نادي “الـ 5+1” لاتفاقِ فيينا مع إيران لعام 2015. وفرنسا دولة مُبادرة، وهي التي تقودُ الاتحاد الأوروبي هذه الأيام، في رسمِ طريق ما ستؤول إليه المفاوضات الحالية. بالمقابل فإن السعودية دولة أساسية في المنطقة، سواء في نفوذها الإقليمي والدولي أو في علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الكبرى أو في ما يمكن لحوارها مع إيران أن يُوفّره من مدٍّ وجزرٍ لطهران. على ذلك حفرت الديبلوماسية ملامح صفقةٍ تُفسّر التطوّر السعودي تجاه لبنان.

جال ماكرون في منطقة الخليج من أجل فرنسا ومن أجل نفسه. فرنسا تحتاج إلى غَرفِ ثمارٍ اقتصاديةٍ وسياسية، وماكرون يودُّ وضع ذلك في صندوقِ إنجازاته قبل أشهرٍ من الانتخابات الرئاسية. ومَن يُراقبُ المحطة الإماراتية في جولة ماكرون، وما أُبرِمَ خلالها من عقودٍ، سيستنتج الأهمية التي يوليها شخصيًا لتطوير علاقات باريس مع كل المنطقة الخليجية وفق نموذجِ علاقات فرنسا والإمارات. ومن عوّلَ كثيرًا في لبنان على همّة الرجل لحلّ أزمة البلد، كان عليه أن يُدرِكَ أن ماكرون، الذي يطرح قضيّة لبنان من ضمن قضايا أخرى تهمّ باريس، لم يُخاطر لحظة في تعريضِ علاقات بلاده مع دول الخليج كرمى لعيون بلدٍ لا يمتلك حكّامه قرارهم. فلو كانت الرياض غير جاهزة لهذا التحوّل لما نجح ماكرون في مسعاه.

“المشكلة في لبنان وليس مع لبنان”، هذا هو العنوان السعودي وفق التعبير الدقيق لوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان. إستقال قرداحي، لكن لا أحد في أيِّ عاصمة خليجية أعلن، لا عبر المنابر الرسمية أو الإعلامية، أن تلك الاستقالة شرطٌ لعودةِ العلاقات الخليجية مع لبنان إلى سابق عهدها. فأزمةُ الخليجيين مع لبنان تكمن تمامًا في “سابق عهدها”. والمعادلة بسيطة: تغيرَ سلوك الخليج ورؤية بلدانه في التعامل مع “الحالة” اللبنانية، بالمقابل لم يتغيّر ولا يتغيّر شيءٌ في لبنان.

منذ بدء الأزمة الخليجية-اللبنانية الأخيرة، أصدر “حزب الله” روايةً مغلوطةً عن هذه الأزمة عمّمها على حلفائه في البلد. أفتى بأن الأزمة مُرتَبطة بما تفتّقت به عبقرية الوزير المعجزة. لم يجد الحزب في الحملات الإعلامية التي يشنهّا أمينه العام، السيد حسن نصرالله، على الرياض ودول المنطقة سببًا في تلك القطيعة. لم يجد الحزب سببًا للأمرِ في “غارات” الكبتاغون التي تُهاجر من لبنان صوب تلك المنطقة. لم يجد في سلوكه في الكويت منذ خليّة العبدلي إلى خليته المُعتقَلة حديثًا سببًا وجيهًا. لم يجد في أنشطته في الإمارات والبحرين والسعودية سببًا مُقنِعًا. ولم يجد في مشاركته في حرب الحوثيين ضد اليمنيين والسعودية سببًا مُباشرًا.

أما وأنّ سرّ الأزمة بالنسبة إلى الحزب تكمن في قرداحي، فردُّ الحزبِ برفضِ استقالته والتمسّك بفطنته والتهديد بفرط الحكومة بما ينفخ من نرجسية الرجل الذي بات أيقونة يرفع لها الحوثيون في صنعاء لافتات الأبطال. وطالما أن مفتاح الربط والحل، وفق أوهام الحزب، تكمن في مصير الرجل داخل الحكومة، فسهل أن يتمّ التضحية به بكلّ بساطة توسّلًا لمقايضة يجري طبخها مع مسألة التحقيق بانفجارِ مرفإِ بيروت، على أن يُقدّم الأمر بصفته إرضاءً لتمنّيات فرنسا ورئيسها عشية حجّه إلى الخليج. ولعلّ عدم وجود ضمانات بنجاح تلك المُقايضة يُرجّح أن “حزب الله” تخلّى عن قرداحي لدواعٍ مُوحاة من الخارج.

والحال أن “حزب الله” الذي يتّبع أهواء طهران أراد النزول عن الشجرة وقدّم “التمنّي” الفرنسي الذي نقله رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، عُذرًا لذلك. رفض “حزب الله” مبادرة ماكرون حين هرع إلى بيروت بعد يومين على انفجارِ مرفإِ بيروت. رفض بردحِ أمينه العام تشكيل حكومة نزيهة مستقلة عن الطبقة السياسية يأمن لها المجتمع الدولي. ردَّ ضغوط باريس وفرض حكومة على مقاسه التكنوقراطي برئاسة حسان دياب، ثم فرض حكومة سياسية كما أراد برئاسة نجيب ميقاتي. فما الذي تغيّر ليقبل هذه المرّة الرضوخ لتمنيات باريس؟

تمّ توزير قرداحي لأنه يقول عادة ما قاله في المقابلة الشهيرة التي سُجّلت معه قبل توزيره. أما التعذر بأن الوزير كان قاصرًا قبل أن يُصبحَ وزيرًا ولا يعتدّ بكلامه، فتلك بضاعة كاسدة جرى التخلّص منها حين قرر “حزب الله” ومن ورائه طهران “تسهيل مهمة” ماكرون عشية حجّه إلى الخليج. ولئن جرى تصوير قرداحي سببًا للأزمة تزول بزواله، فذلك اختراعٌ جرى بيعه لماكرون بدون أي ضمانة من إعادة بيعه لدى دول الخليج. لكن الرياض أرادت الانتقال إلى “صفحة جديدة”.

وفق تصريحاته، قال ماكرون قبل جولته الخليجية: “أتمنّى على الصعيد الاقتصادي والسياسي أن أُعيدَ التزام دول الخليج في لبنان بمساعدة هذا البلد لإخراجه” من أزمته. في ذهنِ عباقرة الحكم في لبنان، وربما في ذهن ماكرون، أن تقديم رأس الوزير النابغة، هو ثمنٌ كافٍ لحَرَدِ الخليجيين. والحال أن الرئيس الفرنسي يتشاطر منذ مبادرته في لبنان على التعامل مع البلد وكأنه يتعامل مع بلدية في فرنسا، بحيث يمارس مواهبه في تدوير الزوايا واجتراح الصفقات وتَسَوُّل الاعتراف بدوره ونفوذ بلاده. وفي تمرينه هذا لم يجد في “حزب الله” سببًا حقيقيًا لأزمة لبنان وأزمة الخليج مع لبنان.

تتدافع الدول الحليفة لفرنسا، لا سيما الأوروبية منها، على وضع “حزب الله” على قوائم الإرهاب. لا يُشكّل هذا الحزب أخطارًا مباشرة داهمة مُثبتة على تلك الدول بالقدر العالي الذي يُشكّله على لبنان ودول المنطقة، الخليجية خصوصاً، واللائحة حول ذلك مُثبَتة يفاخر الحزب ببعضها. ولئن لم تسمح إيران بتسهيل مبادرة فرنسا في لبنان وأرسلت وزير خارجيتها آنذاك، محمد جواد ظريف، للتنديد بالتدخّل الفرنسي في لبنان عقب كارثةِ مرفإِ بيروت، فكيف لماكرون أن يرى حلّ أزمته وأزمة بلاده في لبنان داخل عواصم الخليج؟

يتحمّل ماكرون، طالما أنه مُتبرّعٌ بمبادرته تجاه لبنان، مسؤولية سياسته في التبشير بأن تكون بلاده “قوّة توازن” في الشرق الأوسط. تدور تلك السياسة على رشاقة ماركنتيلية تعتمد الإمساك بكافة الخيوط في المنطقة والنهل منها جميعًا على تضادها وتناقضها. وفي هذا مناورة للمُساكنة بين مصالحه الطموحة في الخليج والمصالح التي ينتظر تحقيقها مع إيران وحزبها في لبنان. والأرجح أن ماكرون وجد في الخليج خليجًا تغيّرَ، ورأى في السعودية “ثورةً ثقافية”، وأن جُزءًا من مستقبل المنطقة يُرسَمُ عندها، وهو أمرٌ لم يفهمه أهل الحكم في لبنان. باتت للخليجيين رشاقة الاختلاف مع الولايات المتحدة وإدارتها والمضي نحو خياراتٍ كثيرة أخرى. وعليه لن تتأثر دول المنطقة كثيرًا بـ”السحر الفرنسي” لشراء سلع إيرانية في لبنان، ذلك أن إيران نفسها لم تتمكّن من تسويق سلعها للمنطقة داخل غرف الحوار مع السعودية الذي ما زالت الرياض تجده، وبعد جولات أربع، “استكشافيًا”.

في تسويق ماكرون لـ”قوة التوازن” يكتشف بعد محادثاته في جدة أنه لا يُمكن الحديث عن اتفاقٍ نووي مع إيران من دون الحديث عن الاستقرار في المنطقة، في غمزٍ من قناة إيران المُتَّهَمة بزعزعة هذا الاستقرار. غير أن البيان المُشترَك بين السعودية وفرنسا شدّدَ على ضرورةِ حصر السلاح في لبنان على مؤسسات الدولة الشرعية، و”ألّا يكون لبنان مُنطَلَقًا لأيِّ أعمالٍ إرهابيةٍ تُزعزِعُ أمنَ واستقرارَ المنطقة، ومصدرًا لتجارة المخدرات”. مهمة قد تكون مستحيلة!

ولئن تحدّث ولي العهد السعودي عن “فتح صفحة جديدة”، فهل فَهِمَ أهلُ الحُكمِ في لبنان أنَّ عليهم هُم فتح هذه الصفحة، وهل يستطيعون إلى ذلك سبيلًا؟

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: (@mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى