هذه المنسيَّة… جوهرةُ عصر النهضة الإِيطالية (2 من 2)

صوفونيسْبا في شيخوختها (1624) بريشة زائرها فان دايك

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذه الثنائية، سردتُ مطالع سوفونيسْبا آنغيسُّولا (1532-1625)، وهي برزت في عصرها أَول وأَشهر امرأَة رسامة في عصر النهضة الإِيطالية. ثم انتقلت إلى بلاط فيليب الثاني ملك أسبانيا في مدريد وعاشت فيه طويلًا. لكنها بعدذاك غرقت في النسيان الطويل إِلى أَن عادت لوحاتها إِلى الظُهور بفصل دراسات قام بها باحثون في القرن الحادي والعشرين.

في البلاط الملكي الإِسباني

الحروب التي جرت على أَرض إِيطاليا إِبان صبا صوفونيسْبا، انتهت نحو سنة 1559، بعد 65 سنة من النزاع الحربي بين فرنسا وإِسبانيا للسيطرة على حكْم إِيطاليا. ومعاهدة كاتو-قمبريس (3 نيسان/أَبريل 1559) رسخت مدينة كريمونا، أَكثر من قبْل، تحت الحكم الإِسباني بعدما فرنسا تخلَّت عنها لدوقية ميلانو.

هكذا لفتَت براعةُ صوفونيسْبا حاكمَ ميلانو الإِسباني على دوقية سيسّا، فطلبَها إِلى بلاط فيليب الثاني ملك إِسبانيا. وفي البلاط، وعملها مع زوجة الملك الفرنسية إيزابيل، باتت رسامة الأُسرة الملكية.

لم يكن بلاط مدريد مثاليًّا لعمل الرسامة الشابة، وسط أَجواء حاكم إِسبانيا ومستعمراته الأَميركية وحكْم إِيطاليا وسواها، فهو كان ملكًا جلفًا وقاسيًا. مع ذلك تمكَّنت صوفونيسْبا، خلال إِقامتها الطويلة في مدريد، من عقد حلقات صداقة، خصوصًا مع الملكة إِيزابيل التي جاءت إِلى مدريد وهي في الرابعة عشرة، فبقيَت صوفونيسْبا إِلى جانبها أَثناء فترات حمْلها، واعتنَت تدريسًا ورعايةً بابنَتَي الملكة: إِيزابيلَّا كلارا أُوجينيا وكاتالينا ميكاييلَّا.

صوفونيسْبا في صباها (لوحة ذاتية)

الملِكة الصبية تلميذتُها

تلك الدروس الفنية للابنَتَين وطَّدت العلاقة بين صوفونيسْبا والأُسرة المالكة. وسنة 1561 كتب سفير إِيطالي: “صوفونيسْبا الكريمونية قالت عن تلميذتها (الملكة إِيزابيل) إِنها ممتازة وترسم في تلقائيةٍ لافتةٍ بالقلم الرصاص وجوهًا يتبيَّنها الرائي فورًا”.

بين أَعمال صوفونيسْبا الملَكية سنة 1565، كانت لوحة الملك فيليب الثاني. وإِلى لوحاتها الأُخرى عن الملكة إيزابيل ثم لاحقًا عن ابنَتَيها، تمكنت من رسمٍ مصيبٍ جدًّا تفاصيلَ ملامحِ الوجوه.

سنة 1568 وقعَت الكارثة حين توفيَت الملكة إِيزابيل عن 23 سنة فيما تضع مولودها. ووصف عدد من سفراء إِيطاليين حزن صوفونيسْبا على موت الملكة. ومع أَنَّ كثيرين من أَهل البلاط غادروا مدريد بعد موت الملكة، بقيت صوفونيسْبا بطلب من الملك فيليب الثاني طالبًا إِليها العناية بالملِكَتين الصغيرتَين إِيزابيلَّا كلارا أُوجينيا وكاتالينا ميكاييلَّا. وتوسَّعت مكانتها العالية في البلاط مصدرَ شهرةٍ لها كامرأَة رسامة، كما شهد بذلك نقَّاد الفن عصرئد ولاحقًا.

بيانكا شقيقة صوفونيسْبا

فنانة غريبة-امرأَة غريبة

يرى اليوم عددٌ من مؤَرخي الفن أَنَّ بين أَعمال صوفونيسْبا ما يُعزى إِلى سواها كما ادّعى رئيس مجموعة رسامي البلاط أَلونصو سانشيز كويلُّو  (1532-1588). وبين اللوحات المعزوَّة إِلى سواها: “سيدة ذات طوق من فراء” وهي بقيَت سنواتٍ طويلةً لاحقًا تعزى إِلى الرسام الشهير إِلغريكو (1541-1614) الكريموني الذي عاش في إسبانيا. وما إِلَّا سنة 2019 حتى ظهرَت دراسةٌ وضعَها بولوك هاوس في غلاسغو (سكوتلندا) والخبير لدى متحف پرادو، أثبَتَتْ أَنَّ تلك اللوحة ليست للغريكو بل بريشة صوفونيسْبا، والتي تبدو في اللوحة هي الصبية كاتالينا ميكاييلَّا ابنة الملك. وهذا التأْكيد يُثْبت أَيضًا أَنَّ لوحة الملكة كاتالينا التي يعزوها متحف پرادو إلى سانشيس كويلُّو هي فعلًا بريشة صوفونيسْبا. ويثبت التاريخ أَنَّ كاتالينا في تاريخ وضع اللوحة (1584) كانت غادرت مدريد إلى مدينة ساڤُوْيْ، غيرِ البعيدة عن جَنَوى حيث كانت تعيش صوفونيسْبا.

كاتدرائية باليرمو حيث توفِّيَت صوفونيسْبا

الزواج المكسور

سنة 1573 وافَق الملك فيليب الثاني على زواج صوفونيسْبا من النبيل الصقلي فابريسيو مونكادا، وقدّم للعروس مهرًا هدية الزواج. حضرت العرسَ في مدريد الملكتان الصغيرتان إِيزابيلا (6 سنوات) وميكاييلَّا (7 سنوات) وأَقام العروسان في جزيرة صقلية. لكن الزواج انكسر حين هجم قراصنةٌ على فابريسيو وقتلوه سنة 1579.

ضئيلةٌ هي المعلومات عن حياة صوفونيسْبا في الجزيرة، ويرجَّح أَنها هناك أَيضًا بقيَت ترسم. وسنة 2008 أَكد دارسون وجود وثيقة تثبت أَنَّ صوفونيسْبا وضعَت لوحة للعذراء داخل كنيسة سانتا ماريا في مدينة پاترنو (مقاطعة كاتانيا في جزيرة صقلية). وهذه من اللوحات الدينية القليلة التي رسمتها صوفونيسْبا وبقيَت لقرونٍ منسوبةً إِلى رسام آخر.

الزواج الثاني

عادت صوفونيسْبا فترةً إِلى شمال إِيطاليا ربما كي تكون قريبةً من أُسرتها. وبعد زواجها مجدَّدًا، عاشت في جَنَوى وفيها يرجَّح أَن تكون رسمَت الملكتَين الصغيرتَين. وحين بلغَت الثمانين، وكانت أَمستْ شبه ضريرة، عادت مع زوجها الثاني مجدَّدًا إِلى جزيرة صقلية. وهناك نحو سنة 1624، قبل عام من وفاتها، زارها الرسام الباروكي أَنتوني ڤان دايك، معجبًا من أَن تكون امرأَةٌ تمكَّنت من رسم ملك إِسبانيا والتراسُل مع عبقريّ عصره ميكالانجلو، ورسْم لوحة ذاتية لها. وإِلى وصفه ملامحَ صوفونيسْبا في شيخوختها، دوَّنَ ڤان دايك لقاءه بها في دفتر مذكراته، فكتَب: “تذكَّرَتْ كيف كانت رسامة أُعجوبية طوال حياتها. وما يعذِّبها لم يكن عجْزها عن الرسم بل الشَحّ القوي في بصرها. مع أن يديها لم تكونا ترتجفان”.

حفْرٌ على ضريحها

عاشت صوفونيسْبا حتى الثالثة والتسعين، وتوفيَت سنة 1625 في پاليرمو (صقلية)، وكانت حتى وفاتها مهتمَّة بأُسرتها وأَقربائها. ولدى وفاتها طلب زوجها أن تُحفَرَ على ضريحها في كنيسة القديس جيورجو الجَنَوي هذه العبارة: “إِلى صوفونيسْبا، إِحدى أَشهر النساء في العالم جمالًا وموهبةً. تميَّزَت برسم تفاصيل الوجه البشري كما لم يتمكَّن من رسْمها أَيُّ رسام في عصرها”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى