أينَ يَتَّجِهُ الشَرقُ الأوسط؟
الدكتور ناصيف حتّي*
الكُلّ بانتظارِ ما ستُسفِرُ عنهُ القمّة الأميركية-الإسرائيلية المُرتَقَبة في التاسع والعشرين من هذا الشهر، في مُحاولةٍ لقراءةِ ملامح المرحلة المقبلة واستشراف مسار التطوُّرات في العام الجديد، ولا سيما على الساحات الساخنة والقابلة لمَزيدٍ من التسخينِ بدرجاتٍ وسُرعاتٍ وأوقاتٍ مختلفة، على الجبهات المُشتَعلة والمُترابطة باشكالٍ عديدة. وهي مساراتٌ تحرصُ إسرائيل على الفصل بينها لأسبابٍ تتعلّقُ برؤيتها الإيديولوجية (خصوصًا مع الحكومة الحالية)، وحساباتها الاستراتيجية، ومصالحها الأمنية الأساسية والحيوية.
في هذا السياق، تعتبرُ إسرائيل قطاع غزّة مجرّدَ مشكلةٍ أمنيّة أساسيّة بالنسبة إليها، وليس جُزءًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة (ولو أنَّ القطاعَ كان يخضعُ لترتيباتٍ مختلفة عشية الحرب). ومن هنا، تصطدمُ المطالبُ الإسرائيلية المُرتَبطة بتنفيذ المرحلة الثانية من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالموقف العربي-الإسلامي بشكلٍ عام، والذي أبدى بعضُ أطرافه استعدادًا للمساهمة في تشكيل قوة مُخَصَّصة لحفظ الأمن في غزة، بناءً على مسوغات وشروط معروفة وأكثر من ضرورية لتثبيت وقف إطلاق النار وضمان استمراريته. مسوغاتٌ أو شروطٌ لا تندرجُ في تنفيذ الخطة الإسرائيلية في إخضاع القطاع كُلِّيًا للرؤية الأمنية الإسرائيلية، لا بل تتناقضُ مع تلك الرؤية التي تتعامل مع غزة وكأنها جزيرةٌ معزولة عن محيطها، ومُنفصلةٌ عن جوهر الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وعن أُفُقِ التسوية الشاملة والمتدرّجة التي يُفترَض أن تُشكّلَ الإطارَ المستقبلي لمعالجة هذا الصراع. لذلك تبقى أيُّ تسوية لتطبيق المرحلة الثانية من خطة ترامب بمثابةِ هدنةٍ هشّة تحت عنوان التسوية القابلة للانفجار، في أيِّ وقتٍ، لاحقًا طالما استمرَّ الموقفُ الإسرائيلي على ما هو عليه، رؤيةً ومُمارَسة.
في الضفة الغربية، حيث تَتَّخذُ الحرب الإسرائيلية أشكالًا أخرى لا تقلّ حدّة، ويأتي في مقدّمها العنف المسلّح المُمارَس ضد السكان، يُعيدُ وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، وهو الجهة الوزارية المسؤولة أيضًا عن ملفِّ الاستيطان، التذكير بخطوةِ شَرعَنة 19 وحدة استيطانية إضافية في الآونة الأخيرة، ما يرفعُ عدد المستوطنات التي جرى إضفاء الشرعية عليها إلى 69 خلال السنوات الثلاث الماضية. ويؤكّد سموتريتش أنَّ هذه الإجراءات تندرِجُ في إطارِ هدفٍ واضحٍ يتمثّل في الحؤول دون قيام دولة فلسطينية في المستقبل.
في المقابل، كان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قد حذّر مؤخرًا من ضرورِة كسر الحلقة المُفرَغة لأعمال العنف المتواصلة، والدفع باتجاه فتح الطريق أمام حلِّ الدولتين بوصفه حلًّا نهائيًا لا رجعة عنه. غيرَ أنَّ الوقائع الميدانية والتطوّرات المتسارعة على الأرض تشير إلى مسارٍ مُعاكِس تمامًا لهذا النداء الأممي، إذ تبدو الأوضاع مُتَّجِهة نحو مزيدٍ من التصعيد والتناقُض الصريح مع تحذيرات غوتيريش، طالما أنَّ القرارات المُتَّخذة في هذا الإطار على المستوى الدولي تبقى حبرًا على ورق ومجرّد نصوصٍ غير قابلة للتنفيذ، ولا تجدُ سبيلها إلى التطبيق، ولو بصورةٍ تدريجية، وهو أمرٌ لم يَعُد مفاجئًا في ظلِّ التجارب السابقة.
المنطق الإسرائيلي نفسه ينسحب على الجبهة اللبنانية، حيث تواصل إسرائيل خرقها الفاضح لاتفاق إعلان وقف الأعمال العدائية (وقف إطلاق النار)، منذ التوصّل إليه في السابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، من دون اكتراث يُذكَر بالالتزامات المُترتّبة على هذا الاتفاق. وفي الوقت الذي يخوض لبنان مفاوضاته تحت عنوان تثبيت وقف إطلاق النار، والضغط باتجاه انسحاب إسرائيل من النقاط التي ما زالت تحتلّها، يعمل في موازاة ذلك، وعلى الرغم من الرفض الإسرائيلي الصريح وغياب الضغوط الدولية المطلوبة، على الدفع نحو إحياء اتفاقية الهدنة لعام 1949، مع إدراكه المُسبَق حجم التعقيدات والصعوبات التي تعترض تحقيق هذا الهدف في الظروف الراهنة.
في المقابل، يبقى الهدف الإسرائيلي الأبعد هو السعي إلى فرض مسارٍ من “التطبيع والتفاوض السياسي” مع لبنان، وهو خيارٌ ترفضه الدولة اللبنانية بشكلٍ قاطع، في مقابل تمسّكها بمبدَإِ التسوية السلمية الشاملة، استنادًا إلى قرارات القمة العربية التي عُقِدَت في بيروت عام 2002. وفي هذا السياق، يبرزُ مُجدَّدًا مفهوم ما يُعرَف بـ”السيادة الأمنية”، وهي النظرية التي يبدو أنّها تتّجه، ما لم يتم وقفها ووضعُ حدٍّ لها، إلى التحوُّل إلى ركنٍ ثابت في العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية، في إطار محاولة فرضها على كلٍّ من لبنان وسوريا، وهو مسارٌ يلقى رفضًا مبدئيًا وقاطعًا من البلدين، لما ينطوي عليه من مساسٍ مباشر بالسيادة وبأُسُس أيِّ تسويةٍ عادلة ومستقرّة.
نُذَكِّرُ بهذه الوقائع والأمور لنقرأ مسار التطوّرات في العام المقبل في شرقِ أوسطٍ يعيشُ متغيّرات مهمّة ويواجه تحدّيات متشابكة عديدة، تتدّرجُ من الاستراتيجي إلى السياسي والاقتصادي والتنموي، وإنْ تفاوتت حدّتها من دولة إلى أخرى داخل الإقليم. كما لا بُدَّ من الإشارة إلى أنّ أيَّ تطوّرٍ يشهده بلدٌ بعينه، أو جُزءٌ مُحدَّد من المنطقة، لا يبقى محصورًا ضمن حدوده الجغرافية أو السياسية، بل سرعان ما تبرز له انعكاسات تمتدّ إلى مجمل الإقليم، ولو بدرجاتٍ متفاوتة. لذلك، في ما خصَّ هذا التنوُّع في التحدّيات وتداعياتها، فإنَّ التعاون الإقليمي الشامل أو القطاعي، ولو بشكلٍ تدريجي، يبقى مصلحة للجميع سواء في بناء الاستقرار أو في تعزيزه، وخصوصًا في احتواء نقاط التوترات القابلة للتصعيد والتوظيف في صراعات مختلفة تحمل تداعيات سلبية على الجميع ولو بأوقات واشكال مختلفة. فالانخراط في التعاون القائم على عدم التدخُّل في شؤون الآخر، واحتواء الخلافات والعمل على تسويتها، والبناء على المُشترَك أو المُتكامِل في المصالح، أمرٌ أكثر من ضروري لتعزيز الاستقرار على كافة المستويات في الإقليم، مستفيدين من دروس وعبر الماضي القريب والبعيد.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان الأسبق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).



