كميليا كلوديل: ضحيةُ رودان؟ أَم مُلهمَتُه؟ (5)

كميليا: “الصبية المغْمَضَة العينين”

هنري زغيب*

مرَّت في الأَجزاء الأَربعة السابقة من هذا المقال المتسلسل مراحلُ زمنيةٌ قطعتْها النحاتة الفرنسية كميليا كلوديل، منذ نشأَتها في كنف العائلة، حتى مطالعها في النحت، وبدْء عملها في محترف رودان وكيف بدأَت بينهما شرارةُ الحب.

في هذا الجزء الخامس تتضح علاقتهما أَكثر، ويتجلى تأْثيره على تماثيلها ثم استقلالها عنه.

تمثالُه؟ أَم تمثالُها؟

عطفًا على ما مرَّ في الحلقة السابقة بأَن رودان كان أَحيانًا يضع اللمسات الأَخيرة على تماثيل كميليا ثم يوقِّعها باسمه، ، ما خلَق في تلك الأَثناء خلْطًا بين الناحت الحقيقي: كميليا؟ أَم رودان؟

الشاهد على ذلك تمثال “صبية عارية في حالة تفكير” (صورتها في الحلقة الماضية)، ولها عنوان أَصلي: “صبية تحمل حزمة قمح”، أَنجزتْها كميليا سنة 1886، ووقَّعَت باسمها المرحلة الأُولى التي هي التمثال في الطين. وكانت كميليا فترتئذٍ تعمل مع رودان على تمثاله الضخم “باب الجحيم”. ثم أَنجز رودان سنة 1888 تمثال “غالاتيا”، والتمثالان متشابهان: صبية جالسة، ذراعها اليمنى إِلى صدرها، ساقها اليسرى خلف ساقها اليمنى، ونظرها مائل قليلًا صوب اليمين. تمثال كميليا يبدو محتاجًا إِلى لمسات وُثقى بينما تمثال رودان مكتمل النضوج. وبقي اللغط قائمًا أَنْ ربما رودان تأَثَّر بمخطط تمثال كميليا أَو أَنه أَنجز تمثاله ليُريها كيف الإِنجاز الكامل يكون.

في تلك الفترة كانت علاقتهما العاطفية ملتبسة بعدُ، غير واضحة الملامح والنوايا.

نسخة رودان من تمثال كميليا “صبيّة عارية في حالة تفكير”

مطالعُ علاقتهما السرية

الثابت أَنْ حين تصارحا بحبِّهما المتبادل، كان ضروريًّا عليهما أَن يتصرَّفا سرًّا عن الآخرين. والمقرَّبون منهما كانوا يعاينون العلاقة بلامبالاة، وبدون شكوك أَو ظنون، خصوصًا أَن رودان كان يعيش مع عشيقته روز بوريه Beuret. وما أَبعدَ الظنون والفضيحة أَيضًا فارقُ السن بينهما: كان رودان يكبر كميليا بأَربع وعشرين سنة.

كانت فترة السبعينات خصيبةً لكميليا، وسنة 1884 عملت بالجفصين على تمثال “المرأَة المنحنية”، ثم صبَّت عنه بالبرونز عددًا من النُسَخ. وكانت بين 1884 و1886 استعانت ببعض أَعضاء في أُسرتها “موديلًا” لتماثيلها. من هنا تمثال رأْس شقيقها “بول كلوديل في السادسة عشرة” ثم تمثال رأْس شقيقتها “لويز كلوديل”.

“جيغانتي” نسخة رودان

توقيعه على تماثيلها

بدت واضحةً لمساتُ كميليا الحنون في اشتغالها على تمثال “الصبية المغمضة العينين”، ذات الشفتين المفتوحتين كما في انتظار القبلة. وتركَّزت رؤْية كميليا النحتية سنة 1885 عند اشتغالها على تمثال رودان “بورجوازيي كاليه”، لأَن رودان أَعطاها بعض الحرية لـصياغة بعض التفاصيل فيه، ما منحها تجربة جمالية كانت في حاجة إِليها. وحتى تماثيل جيسي ليبْسْكُوْمْبْ كانت فيها ملامح من تفاصيل تماثيل رودان وكميليا. ويساعد على هذه الفكرة أَن الثلاثة كانوا ينحتون أَمام “موديل” نسائي واحد، اصطُلح على تسميته تمثال “جيغانتي”، خصوصًا أَن كلًّا من جيسي وكميليا وضعَت سنة 1885 تمثالًا مستقلًّا نقلًا عن الـ”موديل” (جيغانتي)، إِنما تميز تمثال كميليا بتفاصيل دقيقة أَكثر، وهو ما يشير إِلى تأْثير رودان وتعاليمه عليها، وخصوصًا هيبة شخصيته الطاغية التي أَثَّرت على تعلُّقها به.

راقب زوار معرض 1885 تمثال كميليا “هيلينا العجوز” إِلى جانب تمثال “جيغانتي”، ومن المفارقة أن نسخة “جيغانتي” في متحف “بريم” (أَلمانيا) تحمل توقيع رودان (لا كميليا). وقد يكون ذلك لأَحد سببين: إِمَّا لأَن رودان أَراد الاستئْثار بتلك المنحوتة الناجحة، أَو لأَنه أَراد أَن يُعلي مستوى كميليا إِلى مستوى إِبداعه.

ويلفت أَن دراسة بالجفصين لنسخة “جيغانتي” وُجدت بعد وفاة كميليا، دلَّت على تأَثُّر رودان بها لوضعه تمثالًا صغيرًا جاء جزءًا من منحوتته الضخمة “باب الجحيم”.

قصة رودان وكميليا في السينما

علاقتُهُما السرية بدأَت تنكشف

من 1886 بدَأَت العلاقة الحميمة بين رودان وكميليا تظهر واضحةً للأَقربين، إِلَّا لأُسرة كميليا. وكانت واضحةً كذلك ملامحُ خاصة من إِزميل كميليا مستقلّةً عن تَتَلْمُذِها على ملاحظات رودان وتوجيهاته كـ”معلِّم مُرشد”. ومن ذاك الاستقلال عن توجيهاته وإِرشاداته وتعليماته، يرجِّح بعض مؤَرخي الفن أَن رودان كان هو من يطلب أَحيانًا نُصْح كميليا التي أَخذَت تزداد الطلبات على تماثيلها إِذ بدأَت شهرتُها تتنامى.

أَيكون هذا التنامي سببًا لقلقٍ مرهِقٍ أَخذ يستبدُّ برودان؟ وهل يكون ذلك أَيضًا سببًا في ما كان يحصل بينهما من مشاجرات، ثنائية في البدء ثم علنية في المحترف؟

جنونه بها حين تغضب وتغيب

نتيجة تلك المشاجرات أَنَّ كميليا كانت تختفي فترةً من المحترف بعد كل مشاجرة ولم تكن تعود إِليه. والدليل: بعد إِحدى المشاجرات كتب رودان رسالة إِلى كميليا باح لها فيها أَنه أَمضى ليلته يبحث عنها في الأَماكن التي يعرف أَنها قد تكون لجأَت إِليها.  وبدا في تلك الرسالة متـأَرجحًا بين غضبه منها لأَنها تركَت المحترف، وكبْتِهِ البوحَ بمشاعره تجاهها.

في حالات متشجنة كهذه، كانت جيسي وسيطةً بينهما، خصوصًا أَن كميليا كانت تُبدي حيال رودان تصرُّفًا أُنثويًا لَعوبًا سرعان ما كان يثير أَعصابه ويُخرجه عن تَعَقُّله كفنان شهير مكرَّس، فيتصرَّف كشابٍّ في مطلع عهده بالحب يتعلَّق بصبية للمرة الأُولى.

وفي محفوظات رودان ظهرت لاحقًا تعليمات كان يكتبها لجيسي يطلب منها التأَكُّد من عاطفتها نحوه، ويرجوها أَن تُقْنع كميليا بالعودة إِليه.

إِلى هذه الدرجة عصَف الحب به، عرّاهُ من هيبة شخصيته، وجعله فتًى مراهقًا يعيش أَول علاقةٍ عاطفية في صباه.

كيف تطوَّر هذا الحب بينهما؟ وإِلى أَين وصَل؟

هذا ما أُفصِّله في الجزء المقبل من هذا المقال المتسلسل.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى